الكلمة المكتوبة والكلمة المتجسد

يقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس في (2تيمو 4: 2): “اكرز بالكلمة” .

الكرازة هي هدف رئيسي لوجودنا ككنيسة في هذا العالم، فمهمة الكنيسة الرئيسية أن تبشر وتكرز بإنجيل يسوع المسيح.

والكلمة في مفهومنا المسيحي تعني أمرين:
أولاً: الكتاب المقدس.
ثانيًا: شخصية المسيح.
وكلاهما إلهي وإنساني في آن واحد.

أولاً: الكتاب المقدس
هو كلام الله وهو أفضل كتاب عرفه العالم، ومن الرائع أنه لا يوجد في كتابنا المقدس آيات تنسخ آيات أخرى، فتصبح الآيات المنسوخة عاطلة بلا فائدة، ولا يأتي الله بتشريع ويلغيه بتشريع آخر، ولكن الله يتدرج بالبشرية من مرحلة لأخرى في طريق الكمال والملكوت.

وبشأن مفهوم الوحي، ليس هناك تعبيرات أدق مما قاله الكتاب المقدس عن طبيعة الوحي، ففي هذا الصدد قال الرسول بطرس:

في رسالتة الثانية 1: 21 “لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروحِ القدس” .

وشرحًا لهذه الآيات، قال طيب الذكر الراحل القس إلياس مقار في كتاب إيماني: “إن العلاقة الإلهية البشرية في الكتاب المقدس، أشبه بذلك الضوء الذي ينفذ خلال زجاج الكاتدرائيات الملون، الذي وإن كان في حد ذاته نورًا علويًا يأتي من الشمس، إلا أنه يحمل معه لون الزجاج عندما ينفذ إلى داخل الكاتدرائية، وإن نسمة الله في الوحي ونفخته تعني في الواقع تلك العناية الإلهية الدافعة والحافظة والمنقية والمحددة لما يُكتب سواء كان تفصيلاً أو إجمالاً. ونؤمن أن روح الله هو الذي أوحي بالكلمة المقدسة، وكأن الله نفخ في الكلمات البشرية نسمةً منه، كما نفخ قديمًا في آدم، فأصبحت تلك الكلمات حية ومحيية صادرة من فمه هو، والكلمة النبوية هي الدستور الوحيد المعصوم ذو السلطة الكاملة للإيمان والأعمال”. انتهي الاقتباس.

بمعنى آخر، يمكننا القول إن كل الكتاب هو زفير الله هو تنفسات الله، وحمل الله الكتبة بروحه إلى الهدف الذي كان يريده ويقصده.

ثانيًا: شخص المسيح
وإذا كان من الطبيعي أن نطلق على الكتاب المقدس بعهديه أنه كلمة الله، فإن كلمة الله تعني أيضًا شخص المسيح كلمة الله المتجسد (اللوجوس)، فهو الذي قال عنه يوحنا: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسدًا”. وكلمة الله هنا ليست صفة ولا وحيًا مكتوبًا ولكنها شخص المسيح…

المسيح هو كلمة الله والذي من خلاله أعلن الله لنا عن نفسه بأجلى صورة وأوضح بيان، المسيح هو كلمة الله، فهو قمة الوحي، وكمال الإعلان الإلهي، فهو الوحي وموضوعه، بدؤه وملؤه، كماله وغايته.

إن المسيح هو كلمة الله الأخيرة التي أوحى بها الله عن نفسه للبشر، هو الله المتكلم وكلمة الله ذاته، المسيح هو الوحي وموضوعه في آن معًا، وكما قال كالفن إنه لا يمكن معرفة المسيح بشكل صحيح إلا من خلال الكتاب المقدس، لا يمكن أن نعرف الكلمة المتجسد إلا من خلال الكلمة المكتوبة.

وكان السيد المسيح فريدًا في أنه إله وإنسان في آن واحد؛ هو هو نفسه ابن الله وابن الإنسان وهو صورة الله غير المنظور.

ونظرًا لأن السيد المسيح شخصية فائقة العظمة فقد عبر عن عظمتها ملايين المشاهير حول العالم، فقال عنه روبرت لي: “كان المسيح ابن الانسان حتى نكاد نظن أنه ليس ابن الله، وكان ابن الله حتى نكاد نظن أنه ليس ابن الإنسان، كان إنسانًا وكان إلهًا في آن واحد” .

كان إنسانًا فشعر بالتعب، وكان إلهًا فقال: “تعالوا إلى يا جميع المتعبين” .
كان إنسانًا، فشعر بالجوع، وكان إلهًا فأشبع الخمس آلاف بالخمس خبزات وسمكتين. كان إنسانًا، فصلى وكان إلهًا حتى إنه لم يعترف في صلاته بخطية، ومن ثم فلم يستغفر ربه. كان إنسانًا فشعر بالوحدة وقال لتلاميذه: “امكثوا ههنا واسهروا معي”، وكان إلهًا فرجع الأعداء إلى وراء وسقطوا على وجوههم عندما قال لهم: “أنا هو”. كان إنسانًا فبكى على قبر لعازر، وكان إلهًا فقال: “لعازر هلم خارجًا” .

وعن المسيح والكتاب المقدس، قال الدكتور القس إبراهيم سعيد في كتابه الهام “لماذا أؤمن” :
“هذا الكتاب الذي أومن بأنه كلمة الله، فهو ليس متضمنًا كلمة الله وكفى ولكنه، كلمة الله بالذات، نعم استخدم الرب في كتابه علم موسى، وشاعرية إشعياء، وسذاجة عاموس، وحكمة سليمان، وفلسفة بولس، وتصوف يوحنا، وبساطة بطرس، فانطبعت شخصية كلٌ على كتاباته، لكن روح الله كان يسوق الجميع في ما كتبوا، فكتاب الله يتمشى مع مسيح الله، كلاهما كلمة الله، فالكتاب هو كلمة الله المكتوبة، والمسيح هو كلمة الله المتجسد، وكلاهما متأنس، فكتاب الله هو فكر الله متأنسًا في بشرية من كتبوه، والمسيح متأنس في شخص ابن الإنسان، فكما أن المسيح كلمة الله له لحم وعظم ولاهوت. كذلك لكتاب الله لحم وعظم ولاهوت، أما لحمه وعظمه فهما شخصيات كتابه، وأما لاهوته فهو فكر الله. وعندما نقول إن الإيمان المسيحي هو الإيمان بيسوع المسيح، فإننا نقصد ضمنًا أنه هو الإيمان بالكتاب المقدس، فحيث لا كتاب مقدس لا مسيح”. انتهى الاقتباس.

وعندما يقول البعض إن المسيحية ليست دين كتاب، ولا المسيحيين أهل كتاب وأننا نقدس الشخص لا النص، فهذا الكلام قد يكون منطقيًا وجذابًا من الوهلة الأولى ولكن من أين عرفنا الشخص؟ أليس من النص؟ أيها الأحباء حيث لا كتاب مقدس لا مسيح.

يلخص اللاهوتي بيتر إنس نظريته فى طبيعة الكتاب المقدس في هذه العبارة: ” كما أن المسيح هو الله وهو أيضًا إنسان، فهكذا أيضًا الكتاب المقدس إلهي وإنساني في نفس الوقت بكل انسجام”. فالحقيقة هي في اجتماع الأمرين معًا، كما هو الحال في شخصية المسيح التي تجمع الطبيعتين، الإلهية والإنسانية، بدون اختلاط أو امتزاج أو تغيير أو أي تنازل في أي منهما لحساب الأخرى.

في حواره مع نيقوديموس، قال السيد المسيح: “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء”. وما قاله المسيح يؤكد أن الوحيد المنزل من السماء هو شخص المسيح.

القس/ رفعت فكري – رئيس سنودس النيل بمصر
كنيسة كلمة المصالحة