كل المجادلات الخاصة بتبرير الألم تثير استياءً مريرًا تجاه كاتبها. فأنت تود أن تعرف كيف أتصرف عندما أختبر الألم، وليس أن أكتب كتبًا عن ذلك. لكنك لا تحتاج أن تُخمن، لأني سأُخبرك؛ إنني جبان جدًا.
لكن ما علاقة هذا بالغرض الذي أتحدث بشأنه؟ عندما أفكر في الألم – في القلق الذي يلتهم مثل النيران وفي الوحدة التي تمتد وتنتشر كالصحراء، وفي روتين البؤس الممل الذي يكسر القلب، أو مرة أخرى في الأوجاع الكئيبة التي تُظلم الأفق بأكمله أو في الآلام المفاجئة المثيرة للغثيان التي تُسقِط قلب الإنسان بضربة واحدة، في الآلام التي تبدو بالفعل غير محتملة ثم تتزايد فجأة بعد ذلك،
عندما أفكر في الآلام المثيرة للحنق التي تُشبه قرصة العقرب والتي تباغت الإنسان في حركة جنونية، الإنسان الذي كان يبدو بالفعل نصف ميت من عذاباته السابقة – فإن هذا “يُرعب روحي تمامًا”. لو كنت أعرف أية طريقة للهرب كنت سأزحف عبر البالوعات لكي أجدها. لكن ما جدوى إخبارك من مشاعري؟ إنك تعرفها بالفعل: إنها نفس مشاعرك. إنني لا أجادل أن الألم غير مؤلم. الألم موجع. فهذا هو ما تعنيه الكلمة. لكني أحاول فقط أن أوضح لك أن العقيدة المسيحية القديمة “بتكميل الإنسان من خلال الآلام” (عب 2: 10) ليست عقيدة غير قابلة للتصديق. لكن أن أثبت أنه يمكن قبولها فهذا أمر يتخطى مقصدي.
في تقييم مدى مصداقية هذه العقيدة. يجب مراعاة مبدأين. في المقام الأول. لابد أن نتذكر أن اللحظة الفعلية للألم الحالي هي فقط مركز ما يمكن أن يُطلق عليه نظام المعاناة الكلي الذي يُمدد نفسه بواسطة الخوف والحزن. مهما كانت الآثار الجيدة لهذه الخبرات فهذا يعتمد على المركز؛ بحيث أنه حتى لو كان الألم نفسه ليست له قيمة روحية،
إلا أنه إذا كان للخوف والحزن هذه القيمة الروحية، سيكون على الألم أن يتواجد لكي يكون هناك شيء يجب الخوف منه والحزن لأجله. ويجب ألا نشك في أن الخوف والحزن يساعداننا في عودتنا إلى الطاعة وعمل الخير. جميعنا اختبرنا أثر الحزن إذ ييسر لنا محبة من هو غير محبوب – بمعنى أن نحب الناس ليس لأنهم مقبولين لدينا بأية طريقة طبيعية بل لأنهم إخوتنا.
كما أن معظمنا قد تعلم فعل الخير وقت الخوف خلال فترة “الأزمات” والتي قادتنا إلى الحرب الحالية. تُشبه خبرتي الشخصية شيئًا من هذا. فأنا أتقدم عبر طريق الحياة بحالتي العادية الراضية الساقطة الغير بارة، منغمس في لقاءات سعيدة مع أصدقائي لليوم التالي أو في قليل من العمل الذي يداعب غروري اليوم، في عطلة أو كتاب جديد، عندما أشعر فجأة بضربات ألم في عمودي الفقري تهدد بمرض خطير، أو بعنوان في الصحيفة يهددنا جميعنا بالهلاك، مما يجعل كل هذه الحزمة من البرامج تنهار.
في البداية سأشعر بالارتباك، وكل الأشياء الصغيرة التي تسبب لي السعادة ستبدو مثل اللعب المكسورة. ثم بعد ذلك، ببطء وامتعاض، رويدًا رويدًا، أحاول أن آتي بنفسي إلى الإطار الفكري الذي يجب أن أكون عليه في كل الأوقات. فأُذكّر نفسي بأن كل هذه اللعب لم يكن من المفترض لها مطلقًا أن تمتلك قلبي، وأن خيري الحقيقي هو في عالم آخر وأن كنزي الوحيد الحقيقي هو المسيح.
وربما بنعمة الله، أنجح، ولمدة يوم أو اثنين، أصبح مخلوقًا معتمدًا عن وعي على الله ويستمد قوته من المصادر الصحيحة. لكن في اللحظة التي يتوارى فيها التهديد، تعود طبيعتي بأكملها للقفز مرة أخرى نحو اللعب: بل أشعر حتى بالتلهف، وليسامحني الله، أن أزيل من عقلي الشيء الوحيد الذي ساندني وقت التهديد لأنه الآن مرتبط بتعاسة تلك الأيام القليلة. وهكذا تتضح تمامًا الآن الضرورة الشديدة للألم والمعاناة. لقد امتلكني الله لمدة ثمان وأربعين ساعة فقط، وقد حدث ذلك عندئذ فقط بفضل انتزاع كل شيء آخر مني. دع الله فقط يضع ذلك السيف في غمده للحظة وعندها سأتصرف مثل الجرو الصغير عندما ينتهي فرض الاغتسال البغيض، أهزّ نفسي حتى أجف قدر الإمكان وأتسابق لكي أعيد الحصول على نجاستي المريحة، إن لم يكن في أقرب تل من الروث، على الأقل في أقرب مشتل أزهار. وهذا هو السبب في أن المعاناة والضيقات لا يمكنها أن تنتهي إلا عندما يرى الله إما أننا قد تشكلنا من جديد أو أن إعادة تشكيلنا قد أصبح الآن ميئوسًا منه.
هناك مفارقة بشأن المعاناة في المسيحية. طوبى للمساكين، لكن بواسطة الحكم (أي العدالة الاجتماعية) والتبرعات الخيرية يجب علينا أن نُزيل الفقر حيثما أمكن. طوبى لنا إذا عُيِّرنا، لكننا يمكن أن نتجنب الاضطهاد بالهرب من مدينة إلى مدينة، ويمكن أن نُصلي لكي نكون بمنأى عنه، كما صلى ربنا في جثسيماني. لكن إذا كان الألم جيدًا، أليس من المفترض أن نسعى إليه بدلاً من أن نتجنبه؟ لكني أُجيب بأن الألم ليس جيدًا في حد ذاته.
فالأمر الجيد في أية تجربة مؤلمة، بالنسبة للمتألم، هو خضوعه لإرادة الله، وبالنسبة لمن يشاهدونها، التعاطف الذي ينشأ عن ذلك وأعمال الرحمة التي تقود إليها. في الكون الساقط والمفدي جزئيًّا يمكننا أن نُميز
(1) الخير البسيط الذي ينزل إلينا من عند الله،
(2) الشر البسيط الناتج من المخلوقات المتمردة،
و(3) استغلال ذلك الشر بواسطة الله لأجل غرضه الفدائي،
مما يُنتج (4) الخير المُركًّب الذي يُسهم فيه قبول الألم والتوبة عن الخطية. حقيقة أن الله يمكنه أن يصنع خيرًا مركبًا من الشر البسيط لا تُبرِّر
– رغم أنها بالرحمة يمكن أن تُخلِّص- أولئك الذين يصنعون الشر البسيط. هذا التمييز محوري. لابد أن تأتي العثرات، لكن ويل لمن تأتي بوساطتهم العثرة. نعم، الخطايا تجعل النعمة تكثر جدًا، لكننا يجب ألا نجعل ذلك عذرًا ومبررًا للاستمرار في الخطية. الصَّلب نفسه هو أفضل، وبالمثل أسوأ، كل الأحداث التاريخية، لكن يظل دور يهوذا هو ببساطة شر.
يمكننا أن نطبق هذا أولاً على مشكلة آلام الآخرين. الإنسان الرحيم يهدف إلى خير أخيه وهكذا أيضًا تهدف “إرادة الله”، وبذلك فإنه يتعاون عن وعي مع “الخير البسيط”. الإنسان القاسي يظلم أخيه، وهكذا يفعل الشر البسيط. لكن بفعل هذا الشر، فإن هذا الإنسان يُستخدم بواسطة الله، بدون معرفته أو موافقته، لكي يُنتج الخير المُركّب، بحيث يخدم الإنسان الأول الله كابن له، بينما يخدمه الثاني كأداة. لأنك بالتأكيد ستحقق غرض الله، بأية طريقة تتصرف بها، لكن الاختلاف يمكن بالنسبة لك فيما إذا كنت تخدمه مثل يهوذا أم مثل يوحنا.
سي. إس. لويس
من كتاب “الله – الإنسان، والألم” – inarabic.org