الثالوث إلهٌ واحد
مارك عبد المسيح – صوت أونلاين
“ليست كل الأديان واحد، ولا تُشير كل الأديان لله في مركز عقيدتها. ففي قلب كل ديانة هُناك تعهُّد وتمسُّك بغير مساومة لتعريف – بطريقة مُحددة – مَن هو الله ومَن الذي لا يُدعى إله، ومن خلال تعريف الإله تُعرّف الحياة بأكملها، معناها وغايتها.”[1] ~ رافي زكارايُس.
لذلك فعقيدة الثالوث في قلب المسيحية، لا تُعرِّف الله فقط (طبيعته وجوهره)، ولكنها تُعرّفنا ما ينبغي أن نكون عليه (طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا) كانعكاس للإله الذي نعبده. ولكن:
1- كيف نفهم الثالوث كما شرحه الكتاب المقدس؟
2- لماذا لم تأتِ كلمة الثالوث في الكتاب المقدس؟!
3- هل يتعارض الثالوث مع قوانين المنطق؟
4- هل يختلف ثالوث المسيحية عن الوثنية؟ (أشهر الهرطقات)
5- لماذا يصعب علينا إدراك الثالوث؟
في هذا المقال سنحاول تقديم شرح لعقيدة الثالوث وإجابة مُبسطة لهذه الأسئلة، ولكن قبل أن نبدأ علينا أن نُشير لمعنى كلمة “أقنوم” إذ أن الكثير من المسيحيين اليوم يستخدمون هذا المُصطلح دون إدراك معناه ولا سبب استخدامه. “أقنوم” كلمة سريانية الأصل مُترجمة عن الكلمة اليونانية (هيبوستاسس ὑπόστασις). وكلمة هيبوستاسس ὑπόστασις ليس لها مرادف في اللغة العربية أو الإنجليزية، لذلك تمت ترجمتها أحيانًا إلى “ذات” أو “نفس”. وفي حين أن الترجمات الإنجليزية استخدمت كلمة “شخص – Person” بسبب عدم وجود كلمة أفضل من ذلك، فضلّ اللاهوتيون العرب استخدام كلمة “أقنوم” للتفريق بين كلمة “شخص” وكلمة “هيبوستاسس”. ويوضح عوض سمعان الفرق في المعنى بقوله أن “الشخص” منفصل عن أشخاص آخرون لا يُشاركهم نفس الطبيعة، بينما الأقنوم كترجمة لـὑπόστασις، فكيان أو ذات أو حتى شخص كما تترجمها الأنجليزية يشترك – ولا ولم يوجد بغير اشتراك – في طبيعة واحدة التي هي طبيعة الله نفسه. فالأقانيم مع تميُّز أحدهم عن الآخر في الأقنومية، فكل أقنوم في الثالوث يملك كامل صفات جوهر الله، وهُم واحد في الجوهر وصفاته ومميزاته، لأنهم ذات الله الواحد، أي أنُّ الأقانيم الثلاثة تشترك (وتكوّن) في هذا الجوهر.[2]
(1) لخّصَ القديس أغسطينوس عقيدة الثالوث التي استقَتها الكنيسة من صميم تعليم الكتاب المقدس في سبع نقاط، وأكّد أن فُقدان أي واحدة من النِقاط السبع يجعلنا أمام هرطقة (تعليم زائف) منافية للثالوث المذكور في الكتاب المقدس:
1- الآب هو الله.
2- الابن هو الله.
3- الروح القدس هو الله.
4- الآب ليس هو الابن (أي هُناك تمايُز بينهما).
5- الآب ليس هو الروح القدس (~).
6- الابن ليس هو الروح القدس (~).
7- الله واحد.
وسننظر لآيات من الكتاب المقدس تَدعم كل نقطة من السبع نقاط:
1- الآب هو الله؛ وهو المصدر وضابط ومُدبّر الكُل في الخلق وفي تدبير الخلاص والفداء.
يقول يسوع المسيح في (يوحنّا 6: 27) “اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ.” (كذلك، غلاطية 1:1؛ أفسس 3: 14- 15). “الله أبو ربنا يسوع المسيح” هو اللقب الجوهري للأقنوم الأول في الثالوث (رومية 15: 6؛ 2 كورنثوس 1: 3؛ 1 بطرس 1: 3).
2- الابن هو الله؛ وهو كلمة الله الأزلي الذي تأنّس وعاش بيننا في شخص يسوع المسيح، ليُعلِنَ لنا عن الآب. وهو الذي صُلِبَ ومات بالجسد وقام من الأموات لكي يُخلصنا من الخطية ولكي يؤسس ملكوت الله.
فنقرأ في العهد القديم نبوات عن الابن الذي سيأتي وسيكون إلهًا قديرًا، “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا مُشِيرًا إِلَهًا قَدِيرًا أَبًا أَبَدِيًّا رَئِيسَ السَّلاَمِ.” (إشعياء 9: 6).
الأمر الذي أعلنه يسوع المسيح عن نفسه حين قال «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنّا 8: 58) ؛ و”أنا كائن “Ego Emi هُنا التي استخدمها يسوع للإشارة لنفسه، هو الاسم الذي أخبر الله به موسى حينما ظهر له في هيئة عليقة تحترق وقال له “أهيه الذي أهيه” Ego Emi (خروج 3: 14). علمًا بأن هذا التصريح جعل اليهود يرفعون الحجارة على المسيح ليرجموه، إذ رأوا أنه يُجدف.
(كذلك، يوحنّا 1: 1، 3، 14؛ عبرانيين 1: 3 و8- 9؛ مرقس 14: 62- كذلك أنظر مقالتنا عن “مَن هو يسوع المسيح”).
3- الروح القدس هو الله؛ وهو المُرسَل من الآب والابن لكي يُجدد قلوب الخطاة، ويسكن في المؤمنين ويُقدسهم ويشهد عن عمل المسيح فيهم وبهم. وهو له كل صفات الله.
(2 كورنثوس 3: 17) ” وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.”
يؤكد داود النبيّ أن روح الرب هو نفسه إله إسرائيل (2 صموئيل 23: 2- 3). وفي (أعمال الرسل 5: 3- 4) يطلق بطرس اسم “الروح القدس” و”الله” بشكل تبادلي معلنًا أن الروح القدس هو نفسه الله. وكذلك، في عبرانيين 9: 14 يُدعى “الروح أزلي”، أي هو مساويًا في الأزلية لله، وينسَب له أعمال الخلق (أيوب 33: 4)، الصفات الشخصية كالكلام والحديث (أعمال الرسل 13: 2).
4- الآب ليس هو الابن؛ هذا يظهر في مشهد معمودية يسوع حيث يتحدث الآب عن ابنه المحبوب (مرقس 1: 9- 11)، وفي صلاة الابن المتجسد للآب في (يوحنّا 17). كذلك، في اقتباس يسوع لنبوة دَاوُدَ…(حين) قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ (الآب) لِرَبِّي (الابن): اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ
5- الآب ليس هو الروح القدس؛ (لوقا 11: 13) “الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟” فالمُعطي والعطية مُتمايزان.
(كذلك، يوحنّا 15: 26؛ 2 كورنثوس 1: 21- 22).
6- الابن ليس هو الروح القدس؛ نادى يوحنّا المعمدان في وقت خدمته “أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ (يسوع المسيح/ الابن) فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». (مرقس 1: 8).
(كذلك، يوحنّا 14: 15- 16 من أقوال المسيح).
7- الله واحد؛ وهذا ما أكّده الكتاب المقدس بعهدَيْه؛
فإحدى أشهر الفقرات في العهد القديم (في التوراة) هي “اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ” (تثنية 6: 4-6) وقد كانت ولا تزال هذه بمثابة الشهادة الأهم في اليهودية Shama Isreal. كذلك تمتلئ كتب الأنبياء بتصريحات الوحدانية “أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلَهَ سِوَايَ…. لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ”. (إشعياء 45: 5- 6). فبدراسة سياق العهد القديم ككُل يتبيّن أن يهوه إله إسرائيل يطالب شعبة بالالتزام بعلاقة عهديّة معه وحده، كعلاقة الزوج الواحد بالزوجة الواحدة. وكثيرًا ما يُحذرهم من تعدد الآلهه (خروج 20: 3- 5؛ تثنية 13: 1- 5). ولكن لكل قارئ للعهد القديم بعناية يُلاحظ أنه بلا شك “يصرخ لإعلان جديد عن وحدانية الله”[3] ، وهذا ما أشرنا إليه وسنؤكده بعد قليل.
والآن سننظر سريعًا لامتداد “الوحدانية” في عصر العهد الجديد وكتابات الأناجيل والرسائل. هُنا بعض الأمثلة، إذ نجد يَسُوعُ المسيح نفسه يقول “إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ.” (مرقس 12: 29). وأيضًا، رُسل المسيح يؤكدون هذه الحقيقة، “أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ” (يعقوب 2: 19؛ وأيضًا، 1 تيموثاوس 2: 5).
والآن علينا أن نلاحظ، حديث الله عن نفسه بصيغة الجمع في كثير من الأحيان في العهد القديم، هذا في ظل غياب جمع التعظيم في اللغة الأصلية (العبرية) التي كُتب بها. “وَقَالَ اللهُ (إلوهيم): نَعْمَلُ (Let us make) الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا” (تكوين1: 26،27). (وأمثلة أخرى في تكوين 3: 22؛ إشعياء 6: 8). بالإضافة لاستخدام لفظ “ملاك الرب” (المُرسل من عند الرب) بشكل تبادلي مع “الرب” أو “الله” في كثير من مواضع العهد القديم، وقد كان دائمًا “ملاك الرب” هو من يتواصل مع الأشخاص الذين أراد الله بنفسه توجيه الحديث إليهم (تكوين 16، 22؛ خروج 19- 24؛ قضاة 13: 6؛ إشعياء 6).
كما أن وجود شخصية “ابن الإنسان” الذي رآه دانيال في رؤيته (دانيال 7: 13- 14)، وهو شخصًا يُعطى سلطان ومجدًا وملكوتًا ويستحق العبادة. جعل بعض المفسرين يؤكدون أن هذا الشاهد كان بمثابة إعلان لبعض اليهود عن وجود ثنائية إلهية! فكل هذه الأمور تجعل أي قارئ مُحايد للعهد القديم يرى إشارات للتوحيد في توازي مع إشارات التعددية الإلهية.
(2) لذلك فبالرغم من غياب كلمة ثالوث في الكتاب المُقدس، إلا أننا نستطيع أن نرى العقيدة بوضوح في مُعظم أسفار الكتاب المقدس. مثلما لا نجد كلمة “كُليّ الوجود” أو “كُليّ المعرفة” أو “المُكتفي بذاته” لوصف الله ولكنّنا لا نتردد في استخدام تلك الألفاظ لمرجعيّتها الكتابية السليمة.
كما أننا نرى بوضوح آيات كتابية تُشير للثالوث في نفس الوقت، مثل:
(متّى 28: 19) “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.”
(2 كورنثوس 13: 14) “نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ.”
(كذلك، 1 كورنثوس 12: 4- 6؛ وحدث الميلاد في لوقا 1: 30- 38؛ والمعمودية في مرقس 1: 10- 11).
(3) اعترض أحد الفلاسفة على عقيدة الثالوث، في حديث مع اللاهوتي آر. سي. سپرول، قائلًا “أنها لا تتفق مع قانون “عدم التناقض” وهو أحد قوانين المنطق الهامة”، وبعد حديثهما يقول آر. سي. سپرول:
“على الأغلب لم يكن هذا الفيلسوف مُلمًّا بقانون “عدم التناقض”، فهذا القانون يقول: “(أ) لا يُمكن أن تكون (أ) و (لا أ) في نفس الوقت وفي نفس العلاقة”. ونحن حينما نعترف بإيمانِنا في الثالوث، نؤكد أن الله واحد في الجوهر essence، وثلاثة في الأقانيم person. بمعنى أن الله واحد في (أ) وثلاثة في (ب). فإن قُلنا أن الله واحد في (أ) وثلاثة في (أ)، نكون قد وقعنا في تناقض. وإن قُلنا أن الله أقنوم واحد وثلاثة أقانيم في نفس الوقت، فهذا يكون تناقض أيضًا. ولكن على قدر ما تُمثل عقيدة الثالوث سرًّ mystery، وربما نؤكد أنها أعلى وأبعد من قدرتنا لإدراكها بشكل كامل، إلا أن الصياغة التاريخية لها ليست متناقضة”.[4]
(4) أشهر الهرطقات كانت نتيجة لتجاهل إحدى النقاط السبع في وصف الثالوث:
(أ) المودالية (السابلية):
قالت أن الآب والابن والروح القدس هُم ثلاثة تجليات لشخص (أو أقنوم واحد) ظهر في التاريخ بثلاث طُرق أو في ثلاثة عصور مختلفة. ظهر الله في صورة الآب في الخلق (العهد القديم)، ثم ظهر في صورة الابن في التجسد (العهد الجديد)، وأخيرًا ظهر في صورة الروح القدس في الكنيسة (أي ثلاث حالات لنفس الشخص).
وبذلك تكون قد أكدت على الوحدانية الإلهية وتخلّت عن التمايز بين الأقانيم.
(ب) الثلاثية الوثنية Tritheism:
قالت أنّ هُناك ثلاثة آلهة منفصلين. الأمر الذي يُشبه الوثنية التي تُنادي بتعدُّد الآلهة (مثل آلهة المصريين: إيزيس وأوزوريس وحورس؛ وكذلك آمن الهنود بالآلهة “برهمان” و”شنوا” و”شيوا” ولكن – ولأجل إيمانهم بالتطور والتناسخ – كانت هذه الآلهة عندهم تُمثل تطورات متلاحقة في الكون من ناحية “وجوده” و”بقائه” و”فنائه” وكان كل واحد من هذه الآلهة يُمثل مظهرًا منفردًا من هذه المظاهر.[5] وغيرها من آلهة ديانات الشرق القديم التي تحدثت عن ثلاثة آلهة دون أي ذكر لاتّحاد جوهرهم، بل أن بعض الأساطير تحدثت عن صراع بين الآلهة لاختلاف مشيئاتهم والبعض يتحدث عن تزاوج بين الآلهة، الأمر الذي لأجله ترفض المسيحية “البدعة المريمية” – التي انتشر في شبه الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس الميلادي، واعتقد معتنقوها في ثالوث مُكوّن من الأب والابن ومريم العذراء فقالوا أن الله (الأب) تزوج فعليًا من العذراء مريم (الأم) وأنجبا المسيح (الابن)، وهذا الأمر غريب تمامًا عن الكتاب المقدس ولا يوجد أيّة أدلة تُثبت صحته. وبذلك تكون الثلاثية قد أخفقت إذ أكّدت على التمايز بين الأقانيم الإلهية وتخلّت عن الوحدة في الجوهر.
ولعلّ خضوع الابن للآب في الدور ما يُسمى بالـ subordination، هو ما جعل البعض (مثل شهود يهوه) يتبنون أفكار مغلوطة عن المُساواة بين الأقانيم رُغم تمايز الأدوار فيما بينهم. لذلك، علينا أن نفهم أن خضوع الابن والروح القدس للآب في الدور أو الوظيفة لا يُقلل من ألوهية أي أقنوم، إذ بالدراسة المتأنية نجد معظم الصفات الإلهية منسوبة بالكامل لكل أقنوم من الثلاثة.
(راجع 1 كورنثوس 15: 24- 28؛ يوحنّا 14: 28 مع يوحنّا 10: 30؛ 5: 19- 23؛ 20: 28- 29).
ولعل أقرب الأمثلة التي توضّح معنى المساواة في القيمة والصفات الذي يوجد بالتوازي مع الإختلاف والخضوع في الأدوار يُمكن أن نراه في حين “خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ.” (تكوين 1: 26، 27) فكلاهما خُلِقا على صورة الله، وليس هُناك فرق بينهما في القيمة أو الحقوق أو الصفات (غلاطية 3: 28). وهذا يسير مع – وغير مناقض – تعليم الكتاب المقدس أن الرجل هو رأس المرأة، وأنه هو يحبها كنفسه وهي تخضع له بمحبة وتقدير (1كورنثوس 11: 3؛ أفسس 5: 22- 28)، لذا فخضوع المسيح “الابن” للآب لا يعني اختلاف في أيّ من الصفات الألوهية بل تمايزًا في الأدوار في ظل اتحاد المشيئات.
(5) لعل ما قاله سي. أس. لويس في كتابه الشهير “المسيحية المجردة” عن الثالوث، هو أكثر ما يهدِّئ فضول الكثيرين في تساؤلهم لماذا لا يُمكننا أن نستوعب وحدانية الله في الثالوث. حيث يشرح لويس فكرته مستخدمًا رؤيتنا للأبعاد الهندسية.
فالإنسان الذي يرى فقط البُعدين (2Dimensions) يستطيع أن يتخيل مربع مُسطّح مرسوم بخطيّ طول وعرض، أمّا من له القدرة على رؤية الثلاثة أبعاد (3D)، فيُمكنه أن يرى المُكعب ذا الستة مربعات المرسوم بطول وعرض وارتفاع.
ولكن إن تحدّثتَ لمن لم يرَ ولا يعرف الأجسام ثلاثية الأبعاد، عن ستة مربعات يُكوّنون مربعًا واحدًا، فسيتّهمك بالتناقض، رُغم صحة ادّعائك! وهكذا سنفعل إن جاءنا شخص الآن يُحدثُنا عن البعد الثامن (8D) مؤكدًا أن هُناك يُمكن أن نرى 18 مربعًا في مربع واحد! ببساطة إن كان الله هو الله فبالتأكيد يكون وجوده أعظم وأسمى من كل ما رأينا في الوجود، وإن كانت ثلاثيات الوجود (كالمادة والزمن وغيرها) تعكس طبيعته، لكن سيظل الإله المُحب منذ الأزل الموجود في وحدانية تتميز بالشركة المُبهجة بين أقانيمة الثلاثة أعظم من إدراكنا ومن أي شيء سبق ورأته أعيُننا.
“إن الآب والابن والروح القدس يُمجِّد بعضهما بعضًا…. وفي مركز الكون، تُشكِّل المحبة الباذلة للذات العُنصر الحيويّ المُتبادَل في حياة الله الثالوثيَّة. فأقانيم اللاهوت يُمجِّد بعضُهم بعضًا ويتحادث بعضهم مع بعض ويَخضَعُ بعضُهم لبعض…. فلمَّا كان المسيحيُّون الشرقيُّون الأقدمون يتكلُّمون بشأن پركيوريسس Perichoresis في الله، عنوا أنَّ كلَّ أقنوم إلهيّ يكتَنفُ الأخَرَين في لبَّ كَينونته. ففي حركة دائمة من المُفاتَحة والقبول، يحتوي كلُّ أقنومٍ الآخَرَين ويُحيط بهما.
ليس الله في المسيحيَّة شيئًا لا شخصيًا ولا شيئًا ساكنًا – ولا حتَّى مجرَّدَ شخصًا واحدًا – بل هو نشاطٌ حيويٌّ نابض: حياةٌ أو حتَّى دراما من نوعٍ ما. وأكادُ أقول، إنْ كنتَ لن تحسِبَني عديمَ التوقير، أنَّه نوعٌ من الرَّقص….. إنَّ نموذجَ هذه الحياة الثُّلاثيَّةِ الأقانيم هو النبعُ العظيمُ للطاقة والجمال مُتَدفِّقًا من قلب الحقيقة بالذّات.”[6]
————-
[1] Ravi Zacharias, Jesus Among Other Gods, 7.
[2]عماد شحاده، ضرورة التعددية في الوحدة الإلهية، 29- 32.
[3] عماد شحاده، ضرورة التعددية في الوحدانية الإلهية، 34.
[4] R.C.Sproul, What is Trinity? (Crucial Questions Series Book 10), Kindle edition, Chapter 1.
[5] إلياس مقار، إيماني، دار الثقافة، 60.
[6] تيموثي كلر، الإيمان في عصر التشكيك، دار النشر أوفير، 298.