في مثل هذه الأيام، قبيل الصلب بقليل، يسرد لنا الوحي عدة قصص حدثت بمحاذاة صلب رب المجد، متركزة بالذات في إنجيل يوحنا، ابتداء من الإصحاح الحادي عشر، كقصة إقامة لعازر من الموت (يو 11)، قصة سكب الطيب على قدمي السيد (يو 12 : 1 – 8)، قصة دخول السيد المسيح إلى أورشليم (يو 12 : 12 – 19)، قصة غسل الأرجل (يو 13 : 1 – 20) وغيرهم، وكون هذه القصص حدثت في فترة ما قبل الصليب فهي في غاية من الأهمية، وتحمل معان وتعابير روحية جمة، من خلالها أراد الرب أن يوصينا بزبدة تعاليمه وجوهرها، فكما أن الموصي يقول الكلمات الأهم قبيل مفارقته الحياة فكم وكم هو الحال بالنسبة لرب المجد في ساعاته الأخيرة على أرض الشقاء. نعم، كانت لهذه الأحداث أهمية رئيسة التي واكبت مسيرة السيد في آخر أيامه قبل صلبه وصعوده للسماء.
في هذا المقال سنقف على إحدى هذه الأحداث وهي قصة سكب الطيب على قدمي السيد، الواردة في إنجيل يوحنا 12 : 1 – 8. بعد قراءة القطعة والتأمل فيها، نلاحظ وجود فريقين من الناس: الفريق الأول هو فريق محبة الله من كل القلب والنفس والفكر والقدرة الممثّل في مريم أخت مرثا ولعازر، والفريق الآخر هو فريق محبة المال الممثّل في يهوذا، الذي كان أحد تلاميذ الرب الإثني عشر.
نلاحظ أن كلا الفريقين كانوا تابعين للرب، بل ومن تلاميذه ونواة أتباع السيد، واللذين عاينا عجائبه ومعجزاته، ربما الأخيرة منها، وقد تكون الأعظم في معجزات الرب على الأرض قبل الصليب هي حادثة إقامة لعازر من الموت، والتي حدثت قبل حادثة سكب الطيب بأيام قليلة. ليس ذلك فقط، بل أن كلا الفريقين خدما الرب بل واستخدمهما السيد في صنع المعجزات وإخراج شياطين (لو 10 : 17)، ولكن، ولشدة الأسف، لم يكن الجميع أمناء، حتى إن الكثير من تلاميذ الرب رجعوا للوراء ولم يعودوا يمشون معه (يو 6 : 66). كذلك نلاحظ أن لكلا الفريقين محبة وغيرة، ولكن شتان ما بين محبة هذا وذاك، بين المحبة الصادقة والطاهرة وبين المحبة الغريبة الشريرة. كما ويبدو وجه شبه آخر بين الفريقين ألا وهو ما نسميه ب”صورة التقوى”، فيهوذا وفريقه يبدون اهتماما بالفقراء، ولكن بالداخل مشحونون رياء وشرا، فهم لهم صورة التقوى ولكن منكرون قوتها (2 تي 3 : 5، مت 23 : 28).
لقد أحبت مريم سيدها بلا حدود أو قيود أو شروط، فسكبت عند قدميه أثمن ما تملك تعبيرا عن تلك المحبة المتفانية، وهذا ليس بالأمر الغريب بالنسبة لمريم، فقد عرفناها كيف جلست عند قدمي الرب لتسمع كلامه منسبية بمحبته، عالمة أن الحاجة ليس للأمور المادية الأرضية الفانية، “ولكن الحاجة إلى واحد، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها” (لو 10 : 38 – 42).
لقد كان طيب الناردين “خالص كثير الثمن” بقيمة معاش لسنة كاملة، وكان يستورد من الهند واستخدم لمسح الملوك في تلك الأزمنة، وبالتالي فقد اعتبرت مريم سيدها بأنه الملك وعملت عملا نبويا كما قال الرب: “إنها ليوم تكفيني قد حفظته”، ولا حاجة أن نسهب بمدى محبة وتضحية مريم لسيدها بهذا العمل الذي قدّره رب المجد كثيرا، بل وخصّصه بمرتبة ذي أولوية عالية قائلا: “الحق اقول لكم حيثما يكرز بهذا الانجيل في كل العالم يخبر ايضا بما فعلته هذه تذكارا لها” (مت 26 : 13، مر 14 : 9). ليس ذلك فقط، فمريم التي كانت منسبية بحب سيدها تخطت بمحبتها العادات في ذاك الوقت، التي كانت تقضي أن يقدم صاحب البيت ماء كي يغسل أرجل ضيوفه، ورأس الضيف كان يوضع عليه العطر.
لكن مريم رأت أن العطر ينبغي أن يُسكب ليس فقط على رأس الرب يسوع بل على رجليه أيضًا، ولم تمسح رجليه بالطيب فقط بل نشفته بشعرها، لم تستخدم منشفة بل أرادت أن تعبد الرب بكل كيانها. أن تكون بكل كيانها ليسوع. لقد اخترقت العادات والتقاليد فلم تأخذها بعين الاعتبار في سبيل تعبيرها عن فيض المحبة لسيدها.
أما بالنسبة ليهوذا وفريقه، فالوحي لم يترك لنا أي مجال للشك بالنسبة لنوايا يهوذا الشريرة، فقال عنه: “قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه” (يو 12 : 6). لقد كانت غاية قلب يهوذا شريرة كونه محبا للمال، بل سارقا ولصا، لذلك لم يحتمل هذا الشرير عمل محبة وتضحية مريم لسيدها، فأطلق من كنانة قلبه الشرير سهما من سهام إبليس مسديا نصيحة تبدو صالحة ولكنها بالحقيقة في غاية من الشر كما قرأنا.
لقد “استكثر” يهوذا هذا الطيب على الرب، كيف لا وهو الذي أسلم سيده بضعة أيام بعد هذه الحادثة. يعلمنا الكتاب أن “محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الأيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة” (1 تي 6 : 10). إن محبة الله لا يمكن أن تجتمع مع محبة المال، وأعلن الرب ذلك جليا عندما قال: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (مت 6 : 24، لو 16 : 13).
إن محبة مريم للسيد الرب جعلتها تخدمه بكل كيانها وإمكانياتها بلا حدود أو خجل، واضعة إياه الأول في حياتها، وبالتالي فازت بالسباق متممة الوصية التي وضع لها الرب الأولوية الأولى بين سائر الوصايا: لقد أحبت سيدها من كل القلب والنفس والفكر والقدرة وكانت بمثابة رائحة المسيح الذكية لكل من حولها (لو 10 : 27، 2 كو 2 : 15).
ليتنا نكون من فريق مريم، حتى كل ما نعمل ونقول ونفكر أن يكون من منطلق محبتنا للرب من كل القلب والنفس والفكر والقدرة، وبالتالي سوف نسكب الغالي والنفيس عند قدمي السيد وحالنا حال بولس الرسول عندما هتف قائلا: “ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتى أتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله” (أع 20 : 24).