مفهوم الحرية في الفكر المسيحي

المقدمة

موضوع الحرية مهم جدا للإنسان وللحياة ككل والعالم كله، فهو واحد من شيئان يميزان الإنسان ككائن مخلوق عن باقي الكائنات. أي ليس هناك أعلى وأسمى من هذان الموضوعان: العقل ـ الحرية. ولأهمية الموضوع علينا ان نكون عارفين تماما لمعناه وكل ما يخصه من جوانب، لأننا نعيشه يوميا وكل لحظة، لهذا علينا ان نعرفه بشكله الصحيح لنعيشه بشكله الصحيح.

سوف نتكلم عن الحرية بشكل عام لكن طبعا منطلقين من مفهومنا الإيماني لأنه بالتأكيد المفهوم الأصح والأكثر تعبيرا عن جوهر الحرية.

“ان المسيح قد حررنا لنكون أحرارا، فاثبتوا اذا ولا تعودوا الى نير العبودية …. انكم ايها الإخوة قد دعيتم الى الحرية، على ان لا تجعلوا هذه الحرية سبيلا لإرضاء الجسد، بل عليكم ان يصير بالمحبة بعضكم عبيدا لبعض، لان تمام الشريعة كلها في هذه الوصية (احبب قريبك حبك لنفسك)” غلا 5: 1، 13 ـ 14.

في العصر الحالي أصبحنا نسمع ونرى زيادة عدد الذين يطالبون بان يكون لهم الحرية، وأصبحنا نرى ونسمع العالم كله تقريبا يقاتل من اجل حريته بمختلف انواع القتال. فمن ابسط إنسان الى اكبر المؤسسات الدولية نراهم يلحون كثيرا على ان يتمتعوا بحقهم في العيش والعمل حسبما يريدون دون ضغط او اكره.

لكن السؤال المهم: كم من هؤلاء الناس او المؤسسات يطالبون بحرية صحيحة جوهرية؟ أي ما هي الحرية التي يطالبون بها؟

الحـــــرية

تعني الحرية ان يعيش الإنسان ويعمل دون ضغط او جبر سواء جاء من الله نفسه او الأفراد او السلطات البشرية، او العوامل الحياتية الأخرى في حياة الإنسان. أي بمعنى ان يتمتع الإنسان بحرية القرار والمسؤولية ويتمكن من العمل بها دون اكراه.

الحرية تعني الإنسان، فالإنسان بدون الحرية ليس إنسانا. الإنسان الذي يعيش إنسانيته، أي يعيش كل المبادئ والقيم والمقومات التي تجعله يصبح إنسانا، عندما يعيش كل هذه وسط وضعه وعصره وعالمه والذي يتعرض فيه الإنسان الى مختلف انواع الضغوطات والاخطار التي تهدد حرية قراره الشخصي، اذا عاش وسط هذه كلها مبادئه وقيمه ومقومات انسانيته فانه انسان حر.

الحرية هي الوعي بالإنسانية، الوعي التام لما يبني الإنسان ولما يهدم الإنسان، واختيار الشيء البنّاء. فليست الحرية هي التصرف كيفما نريد بل هي معرفة ما نريد، هي اختيار ما نريد لنا كأناس، هي البحث عن ما يعطي معنى لما نعيشه ومعرفة كيف نعيش، أي البحث ومعرفة الحق، الحقيقة. يقول يسوع “ان الحق يحرركم” يو 8: 32، لكن لماذا الحق يحررنا وكيف؟

الحقيقة او الحق هو علامة مميزة لصورة الله في الإنسان، أي ان الإنسان يحقق صورة الله فيه بالحق، الحق المعاش هو تصوير او تجسيد للإنسان في قمة معناه كانسان، الإنسان يحقق ذاته بالحق، أي يصبح إنسانا بالحق لان من صميم تكوينه ان يعيش الحق ليصبح ما هو مصمم له.

الشر هو نقيض الحق، وبالتالي نقيض الإنسان، فالإنسان بشره يهدم حياته لانه لا يتمكن من ان يعيش في العالم او ضمن عالم وأناس ومجتمع مملوء من القيم والمبادئ السيئة. لهذا لا يتمكن من ان يتمتع بظروف حياتية وإنسانية سليمة، فيكون هذا نتيجة قاسية له كانسان تُنقص من كرامته ومكانته في الحياة.

اذاً عمل الشر هو ضد الإنسان، ضد الحق. فعمل الشر بحرية هو نقيض الحرية بل على العكس هو عبودية، لانه يجعل الإنسان لا انسان “كل من يرتكب الخطيئة يكون عبدا للخطيئة” يو 8: 33.

عادة ما يكون الشر جذابا وفيه متعة، لكن متعته تكون وقتية، فالإنسان عندما يعمل الشر يبحث عن أسهل الطرق وأمتعها، والشر يحقق له ذلك، لكن الحرية الحقيقية تكون بمعاداة الشر حتى لو كان فيه متعة لانه يجب البحث عن الشيء الدائم والثابت الذي لا يزول فيه المعنى والقيمة.

المسيحي يجب ان يكون اكثر الناس حرية لانه يعرف معنى حياته وموته، ولان المسيحية هي الحقيقة النهائية حول الإنسان، أي ليس هناك شيء أكثر حقيقة من المسيحية بالنسبة للإنسان. لهذا يجب ان نكون اكثر أحرارا.

الحرية تعني اعمال الإنسان التي يتوجه بها بإرادته نحو هدف حياته الصالح والصحيح. وهي تعني ايضا الانفتاح نحو الخارج وليس الانكماش على النفس.

متطلبات الحرية

لنتكلم قليلا عن متطلبات الحرية، ما هي الأشياء المطلوبة لنعيش أحرار، بحرية؟

اولا: في أي نوع من انواع الحرية لا بد من التقيد بمبادئ إيمانية وأخلاقية قائمة على المسؤولية، الشعور بالمسؤولية. أي كي نعيش أحرارا يجب ان تكون لنا مبادئ صالحة، وهذا عكس المفهوم المتداول للحرية الذي يدّعي بان الحرية هي عدم وجود قيد او مبدأ او شرع يلزمنا. بمبادئنا الايمانية والاخلاقية نبني ذواتنا ونبني عالمنا وحياتنا ومجتمعنا بشكل يساعد الانسان على ان يعيش انسانيته، وبهذا يكون حراً.

ليست المبادئ والشرائع ضد الحرية بل الفوضى والإباحية هي ضد الحرية لانها تجعل الانسان بدون هدف ومعنى، تجعله لا يعرف لماذا يعيش وما معنى حياته واعماله وحتى موته. بينما المبادئ المتأتية من الحق والحقيقة تجعل الانسان مدركا لما يعيشه وفاهما معنى مسيرته ورسالته في الحياة.

ثانيا: من متطلبات الحرية الصحيحة هي ان لا نظن اننا نمتلك كل الحقيقة، وهذه اكبر تجربة يقع فيها الانسان، ونتائجها خطيرة جدا على الحرية. ففي هذه الحالة يرى الانسان الاخرين وكانه تنقصهم الحقيقة، او ليس لهم حقيقة كاملة فيحاول فرض حقيقته عليهم ويصبح هو منتهكا لحريتهم، فكيف يقول انه حر وهو لا يحترم حرية الاخرين؟

ان من اهم ما يجب معرفته من متطلبات الحرية والمتأتية من هذه النقطة هو انه ليس هناك حرية بدون احترام لحرية الاخرين، بدون احترام حقوقهم والالتزام بالعمل تجاههم. لا يمكن ان نحصل على حرية على حساب الآخرين، على حساب ألمهم والتضحية بهم، لاننا في تلك الحالة نكون قد جعلنا الاخرين عبيدا لنا ولنتائج اعمالنا، ونكون قد انتهكنا واحدا من المبادئ التي تقوم عليها الحرية وهي احترام الاخرين.

ثالثا: لكي يصبح الانسالن حرا عليه ان يكون متفتحا. التفتح هو الوعي الناضج تجاه ما يصادف الانسان في حياته، أي يعرف عمق الاشياء ويعيش ويتعامل على اساس هذه العمق.

الحرية الحقيقية تتطلب ان يكون الانسان متنفتحا تجاه:

اللـــه: الله خلقنا بحريته، وهو يستطيع بل قادر على كل شيء، لكنه يختفي لان فرحه هو في ان تحبه خليقته بحرية، يريد ان يكون موضع التفضيل عند الانسان بحريته. على الانسان ان يختار بحريته الله، لانه يحبه ولانه يعرف انه هو المعنى النهائي في حياته. اذاً ليس هناك من حرية اعظم من حرية الله تجاهنا، وعلينا ان نتعامل بنفس الحرية مع الهنا.

الحياة: على الانسان ان يكون منفتحا تجاه الحياة، أي يعي ويفتهم الحياة من كافة جوانبها ويتعامل بواقعية ومبدئية إيمانية، عندها يكتسب حريته الحقيقية، حيث يصبح كل شيء في الحياة عامل مساعد للسعادة وللوصول الى الاستقرار الإنساني ضمن العالم المضطرب ….

الإنسان: الحرية الحقيقية تكون عندما نعطي الحرية للاخرين وليس فقط نحصل على حريتنا. الانفتاح نحو الانسان الاخر يعطينا حريتنا، واحترامه لكرامته الشخصية يعطينا كرامتنا التي هي اساس حريتنا. لنتعامل مع الاخرين بحرية وانفتاح واعٍ، أي نقبلهم كما هم، ولا نحاول ان نصوغ الاخرين كلهم ـ حتى في الاشياء الصالحة ـ على مزاجنا وذوقنا ….

الحرية الحقيقية هي حرية الحب، والحب هو الحرية. “ما معنى الحب اذا كنّا عليه مرغمين”.

د. أميل شمعون نونا – قناة الكرمة