إشكالية العقل والإيمان

من الأطروحات التي نستمع إليها من وقت لآخر وكأنها أمر بديهي إطروحة تناقض العقل مع الإيمان، وهذا الأمر ليس وليد جيلنا بل توارثته الأجيال لدرجه أصبحت من الطبيعي جداً أن نستمع لأحد المثقفين في ندوة أو في وسيلة من وسائل الإعلام وهو يتحدث عن التناقض الطبيعي بين العقل والإيمان، بل هناك رجال دين من المشهورين والمحسوبين على التيار المثقف منهم من يتحدث أنه لكي تؤمن عليك أن تلغي عقلك، أو على الأقل لا تناقش ما تؤمن به منطقياً أو عقلياً، وأرى أن كثيرين من الذين ينحون هذا المنحى هم غير قادرين على الدفاع عن إيمانهم بالمنطق، أو غير قادرين على التعبير عن أنفسهم فيما يؤمنون به بطريقة عقلانية،

لذلك يأخذون من البداية موقف تجنيب العقل للحديث عن الإيمان، لكن إذا عدنا إلى المعنى اللغوي للكلمتين العقل والإيمان نجد أن كلمة العقل عكسها الجنون أو الفوضى الفكرية، لأن الكلمة في القاموس تأتي بمعنى عقل الشئ أي ربطه أو حكمه وتأتي منها عقال الرأس أي تحديد الرأس وربط رأس الجمل لقيادته، فالعقل هو الإطار المنظم المحدد للفكر وما يضبطه ليجعله مقبولاً ثم الخروج بنتائج محددة يؤدي إلى قرار يبنى على الرأي والنتيجة.

أما الإيمان فكلمة عكسها الكفر أو الثقة في أي شئ غيبي أو غير حسي، لذلك بوضع الكلمتين جنباً إلى جنب نجد أنه لا يوجد تناقض بينهما لأن العقل ليس عكس الإيمان أو ضده والعكس صحيح، هذا من الناحية اللغوية أما من الناحية الفلسفية فالإيمان هو التصديق بالقلب، هو الثقة فيما يؤمن به الشخص والإيقان بأمور لا يستخدم فيها الشخص حواسه، ولكن هذا التعريف في نظري ناقص ذلك لأن للإيمان منطق أو ما يسمى منطق الإيمان، فالذي يؤمن بوجود إله وأن هذا الإله مهتم بالإنسان، وأن الإنسان له القدرة أن يتصل بالله من خلال المنطق الإنساني الذي قبل منطق الله في الخلق والوجود والأخلاق والخلاص والحرية.. إلخ

هذا الإنسان له منطق معين في إيمانه، فهو لم يجنب العقل، بل أن وجود الله لا يلغي وجود الإنسان ولا يهمشه ولا يصادر تفكيره أو إبداعه أو تمرده، بل أن الإنسان كلما تمرد على الأطر الموضوعه كان أقرب إلى الله الذي هو الحرية.. وهكذا، ولذلك فنحن نعتقد أن الإيمان نسبي فالله هو الحقيقة المطلقة والذي يظن أنه يمتلك هذه الحقيقة يصبح هو الله أما من يعبر عن إيمانه بالله من وجهة نظره مع قبول وجهات النظر الأخرى فهو يعبر عن فهمه للحقيقة ولا يدعي أن هذا هو الفهم كامل.

إذاً ما هو التفكير العقلاني أو العلمي:

التفكير العلمي هو طريقة معينة في النظر إلى الأمور وأسلوباً خاصاً في معالجة المشكلات أو ما يسمى بـ “العقلية العلمية” والتي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي حتى لو لم يكن يعرف نظرية واحدة معرفة كاملة.

إنها العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات الجهل والخرافة، والعلم ليس معادياً لأي شئ.. وأعظم خطأ يرتكبه المدافعون عن مبدأ معين، أو عن النشاط الروحي للإنسان هو أن يعتقد أن العلم مصدر خطر عليه.

ولا شك أن التفكير العلمي أو العقلاني هو أنجح وسيلة إمتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه، أنه السبيل للإنتصار على كل مشكلات الواقع المعاش، فالتفكير العلمي هو العقلانية التجريبية، إنه تجسيد لطريقة التفكير المثمره الملتزمة بالعقل، فعندما يضع العقل فروضاً معينه لحل مشكلة ما هنا تكون تجربة هذه الفروض على أرض الواقع هي المحك لتعديل هذه الفروض أو رفضها أو قبولها، وهنا لابد من إستخدام الحواس جنباً إلى جنب مع معطيات الواقع فيتضح موقع الخطأ والكذب في الفرض المطروح وهنا يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد يعرض بدوره على محكمة التجريب وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبداً، وهكذا كل إجابة للعقل تطرح تساؤلات أبعد فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى ومهما علونا في مدارج التقدم فلن يغلق العقل التجريبي أبوابه ولن بنتهي البحث العلمي مطلقاً، بل يزداد نشاطاً وهو يسعى سعياً دؤباً ليتخطى حاضره مغيرا ًإياه نحو المستقبل الأفضل دائماً. في هذه الحركة التقدمية تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاسي لا يعرف الرحمة حين يحدد أماكن الخطأ، ولا شك أنها مسألة عسيرة أمام الواقع والوقائع، إنها روعة العلاقة الحتمية بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنها العقلانية التجريبية.

ويلتزم التفكير العقلاني (العلمي) بقيم في التعامل مع الواقع، مثل التخطيط والتفكير المنهجي والإبداع والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع للفصل بين فكره وفكره أفضل.

والأهم من هذا نجد البحث الدائم والمستمر عن الخطأ والقصور الموجود في كل محاولة إنسانية والمجال المفتوح دائماً للنظرية أو المحاولة الأقدر والأجود والتقدم الأعلى والإقتراب إلى ما هو أفضل دائماً، وهذا يعني الإحتمالية والنسبية وعدم الدوام لأية خطوة تتم أو إنجاز يحرز.

لذلك كان التفكير العقلاني العلمي هو أنجح وسيلة إمتلكها الإنسان للتعامل مع واقعه سواء على المستوى العلمي أو العملي.

التفكير العقلاني العلمي ومستويات الوجود

إذا كانت الهوية المميزة للتفكير العقلاني العلمي أنه في كل مستوياته- العلمية أو العملية- ينصب على العالم الواقعي أو الكون الفيزيقي الملموس وإذا كنا نعلم أن هذا العالم الواقعي أو هذا المستوى من الوجود ليس هو بالطبع المستوى الأوحد للوجود…بل أن الإنسان يتميز عن أي موجود أخر بتعدد مستويات الوجود التي تتراوح بينها أبعاد تجربته الوجودية الفريدة والسارية، فبجانب العالم الواقعي المعاش هناك العالم الممكن والمرجو، عالم ما ينبغي أن يكون، ثم عالم العاطفة والوجدان، عالم القيم والمثل، عالم الفن، العالم الغيبي أو الميتافيزيقي، العالم الأيدولوجي، إذا ليس بالعالم الواقعي الملموس وحده يحيا الإنسان وبالتالي ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، بل بتآلف جميع أبعاد تجربته الحضارية العلم والدين والفلسفة والقيم والفن والأيدولوجيا.. أن الحضارة الناضجة تعني تفتح وتفاعل كل هذه الأبعاد معاً، حيث أن جميعها تهدف إلى إثراء الإنسان وإلى وجود أكثر إكتمالا ًوأكثر إشباعاً، وهكذا فإن الصراع بين جانبين أو اكثر من جوانب الحضارة يعني أزمة يجب العمل على تجاوزها وهكذا نستطيع القول أن الحضارة تحتاج إلى العقل والإيمان معاً، العلم والدين معاً وليس مجديا ًالبته التضحية بأي منها على حساب الآخر.

التفكير العقلاني العلمي والإيمان المستنير

إن الأساس العام للإستنارة في كل صورها يعني النظر بعين الإعتبار للعقل الإنساني ولقدراته ولإمكانياته المتوالية وبالتالي الإنفتاح على متغيرات الواقع والقدرة على قبول الآخر هذا في مقابل التطرف والعقيدة التي تمتلك الحقيقة المطلقة وإنكار كل ما عداها، بل والانغلاق على ظاهر النص الديني ولا شك أن النص الديني هو أساس ومحور إرتكاز لأي فكر ديني سواء كان هذا الفكر مستنيراً أو منغلقاً لكن الإتجاه المستنير في الإيمان يؤمن بقدرة العقل وتغيير الواقع، ويتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه ليتجدد مع كل جديد ويصبح ملائماً لكل عصر ومكان ليعطي إجابات جديدة للأسئلة المستحدثة وهنا يصبح للدين رسالته الكاملة والشاملة وعلم التفسير (التأويل أو الهرمينوطيقا) يفرض علينا نفسه اليوم، فقد قفز هذا العلم قفزة واضحة عبر المناهج المعاصرة، وأصبح يتحدث عن الحوار مع النص وهنا ينصهر النص والقارئ معاً، الماضي والحاضر، في علاقة متجددة أي أن النص يبقى مفتوحاً دائماً لفهم جديد وتأويل جديد وبالتالي تصبح النصوص معاصره دوما ًلكل من يقرأها مجددا ً، فظاهر النص ليس هو الحقيقة ولكن الحوار مع النص يفتح علاقة أو علاقات مع الحقيقة وكل عصر يدخل في العلاقة المناسبة له فيتحدث النص بلغة الحاضر دائماً وهكذا لا يفقد النص علاقته بالواقع الحي ولا يفقد بالتالي حيويته فحيويته متجدده باستمرار.

ويرجع الفضل في هذا لأباء اللاهوت اللبرالي في القرن التاسع عشر وأبرزهم فريدريك شلاير في (1768 – 1834) والذي قال أنه ليس هناك ما يسمى بلغة مقدسة وقد وضعت بين دفتي الكتاب المقدس لا شأن للعقل به بل إن اللغة الدينية لغة عادية تتغير تبعاً للقوى التي تعبر عنها، ثم تجدد هذا المنهج بعد ذلك كعلم له قواعده يلغي التباعد بين القارئ والنص مهما تقادم به الزمن بل ينبعث النص حيا ًفي ذهن كل متلق له فيبقى مصدراً لا ينضب أبداً وإمكانية متجدده دوماً وهنا نأتي إلى سؤالين في منتهى الأهمية ما هي علاقة الإيمان المستنير بالتفكير العقلاني ؟ وكيف يمكن الإستفادة من أبعاده ؟ ! وللإجابة على هذين السؤالين علينا أن ندرك أن الإيمان المستنير موقف حضاري ناضج يدرك خاصية الإستقلال والتميز للبحث والتفكير العلمي، واستقلالية التفكير العلمي العقلاني هي أهم خصائصة ومعيار العلم كما قلنا من قبل هو معيار القابلية للإختبار والتكذيب وهو ما يفرق بين ما هو علمي وما هو غير علمي، ولذلك فقضايا الإيمان والغيب والفلسفة والفن والأخلاق، بعض منها أهم وأعلى من العلم وأكثر فاعلية، لكنه ليس علما ً، فهي غير قابلة للإختبار التجريبي ولا للتكذيب وليس مطلوباً منها أن تقبله لأنها تقوم بوظائف أخرى، وموقف الإيمان المستنير هو الذي يعترف بهذه الاستقلالية، ويدرك أنه لم يعد مجدياً ولا حتى معقولاً ملاحقة أو تجنب التفكير العقلاني أو حتى أسر فرص الوصاية عليه، ودليلنا على ذلك أن القرن السابع عشر في إنجلترا جمع بين نجاح حركة الفيزياء الكلاسيكية والإصلاح الديني البروتستانتي في وقت واحد وعوامل نجاح الحركتين أديا إلى الإشتراك في الثورة على السلطة الدينية المتصلبة وليس على الدين نفسه بل كانت الثورة لأجل الدين.

يقول فرانسيس بيكون نحن ندرس توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تكشف قدرة الله التي تتجسد في خلائقة في نفس الوقت الذي فيه حمى فرانسيس بيكون العلم من تدخل اللاهوت.

وفي النهاية نقول أنه إذا أدرك الإيمان المستنير أن الوجود من صنع الله وأن العلم من صنع العقل الإنساني وأدرك أن الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعقل متغير، الوجود باق والعقل نام، الوجود حتمي والعقل حرية الوجود مفعول فيه والعقل فاعل، الوجود كينونة والعقل صيرورة، هنا يتفاعل الإثنان معاً لأجل إنسان أكثر سعادة.

 

الحياة المنتصرة