يؤمن جميع المؤمنين بالله، بوجود الله، وكل موجود عاقل له شخصية، وصفات، وأسماء، وفي ضوء هذه المعطيات يمكننا أن نتعرف على بعض معاني الوحدانية، لنرى ما هو المقصود بوحدانية الله، وما هو الإيمان المسيحي بوحدانية الله؛ يستعرض الأستاذ عوض سمعان في كتاب”الله في المسيحية ص 42، 127″ بعض من صور هذه الوحدانية، ليصل إلى المفهوم المسيحي لمعنى وحدانية الله، فيقول:
الوحدانية المجردة
إن الوحدانية المجردة، تعني أن لا صفات فيها، ومَن يقولون بوحدانية الله المجردة، فهم بذلك ينأون بالله عن أن يتصف بأية صفة، باعتبار أن الله عندما يتصف بصفات معينة، فإنه يكون إلهاً محدوداً بحدود هذه الصفات، وهم يقولون بأن الله فوق الوجود، وفوق العالم، وفوق الإرادة، ونقطة الضعف في هذه الصورة من الوحدانية، إنها تجعل من الله غير موجود، لأن مَن هو فوق الوجود، يكون خارج الوجود، ومن هو فوق الإرادة غير مريد، ولذلك فإن إلهاً مثل هذا لا يمكن أن يكون إلهاً حقيقياً.
الوحدانية المطلقة
يؤمن أصحاب هذا الفكر، بأن الله كائن، موجود، ووجوده أمر حتمي، ووحدانيته مطلقة، لا حدَّ لها، وهم ينقسمون إلى فريقين عند نسبة الصفات لله، فمنهم مَن يقول أن الله ذات يتصف بالصفات السلبية، كعدم الإرغام، وعدم الجهل، وغيرها، ومنهم مَن يقول بأن الله ذات يتصف بكل الصفات الإيجابية كالعلم، والإرادة وغيرها، على أن هذه الصفات لم يكن لها ظهور أو مجال تعمل فيه، قبل الخلق، أي أن صفات الله كانت موجودة منذ الأزل، لكنها صارت فاعلة عند الخلق، لكننا إذا سلمنا بهذه النظرية نكون آمنا بأنه في لحظة من الزمن قد حدث تغير في الله، وحاشا لله من التغيير.
الوحدانية الجامعة المانعة
أي الشاملة والجامعة لكل ما هو لازم وجود صفات الله بالفعل، بصرف النظر عن وجود الكائنات أو عدم وجودها، لأنه بذلك يكون منذ الأزل الذي لا بدء له، عالماً ومعلوماً، عاقلاً ومعقولاً، محباً ومحبوباً، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه، الأمر الذي يتوافق كل التوافق مع كماله، واستغنائه بذاته عن كل شئ في الوجود.
وحدانية تتصف بكل الصفات الإيجابية اللائقة بها، وحدانية لها مميزات خاصة بها، تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها علاقات خاصة منذ الأزل وإلى الأبد.
لذلك لا يٌقصد بوحدانية الله الجامعة المانعة أن هناك آلهة مع الله، أو أن هناك تركيب في ذاته، بل يقصد بها أن ذاته الواحدة التي لا تركيب فيها على الإطلاق، هي بنفسها جامعة مانعة، أي تتميز بكل المميزات الروحية اللائقة بكمالها، واستغنائها عن كل شئ غيرها منذ الأزل، وإذ كان الأمر كذلك فليس في إسناد هذه الوحدانية إلى الله ما يٌفهم منه أن له شريكاً أو به تركيباً [أنظر كتاب الله فى المسيحية لعوض سمعان – صفحة 127، 55].
(**) لا يمكن الاعتراض على استعمال صيغة الجمع بأنها صيغة تعظيم الذات لأن هذه الصيغة لا توجد في اللغة العبرية التي كتبت بها التوراة بدليل أن أقوال الملوك المدونة في التوارة هي بصيغة المفرد “أنا فرعون”، “أنا نبوخذ نصر”. فضلاً عن ذلك فإن الله العظيم لا يحتاج إلى تعظيم ذاته.
(***) هيبوستاسيس .. أقنوم
مصطلح الهيبوستاسيس باليونانية ύπόστασiς أي person أو Hypostasis، دخل هذا الاصطلاح في اللاهوت الكنسي مع بدايات القرن الرابع الميلادي وبعد اصطلاح “أوسيَّا” (oύσiα). وكان العلامة أوريجانوس المصري هو أول مَنْ ميَّز بين الهيبوستاسس (الأقنوم) والأوسيا (الجوهر)، في شرحه لإنجيل القديس يوحنا (2: 6).
وهذا المصطلح ينقسم إلى قسمين: ύπό (هيبو) أي “تحت”،و στασiς (ستاسيس) أي “قائم”. فالمصطلح يعني ما يعبِّر عن الوجود، أو ما يقوم عليه الشيء. والكلمة السريانية “أقنوم” تفيد نفس معنى الكلمة اليونانية ύπόστασiς (هيبو ستاسيس).
وتستخدم هذه الكلمة للتعبير عن التميز بدون انفصال، والأتحاد دون أندماج وقد تُرجمت في الكتاب المقدس “جوهر” ، وكانت تعني “طريقة للوجود” ، أو الشئ الموجود بذاته، والقائم على ذاته ، وحين استُخدمت كلمة “برسيونا” في اللاتينية للتعبير عن أي من أقانيم اللاهوت، كانت تعني حينذاك “طريقة للوجود”، فعندما نتحدث عن كلمة “أقنوم” أو الأقانيم الثلاثة ، فإننا نعني أن لكل أقنوم تميز “تعين”، عن الأقنومين الآخرين، دون انفصال عنهما، فالكلمة “أقنوم” تشير إلى كائن حي يستطيع أن يقول عن ذاته “أنا”، وعن الأقنوم الآخر “أنت”، كما يمكن أن يُقال عنه “هو”، وهذا ما نراه في الكتاب المقدس ، في قول الله ” «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.”(مزمور2 : 7)..
واستخدمت كلمة “هيبوستاسس” في العهد الجديد بمعنى {الجوهر الحامل}” ٣ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي،” (عب 1: 3)،
فهي تعني أيضاً {الجوهر أو الأساس}:”٤ حَتَّى إِذَا جَاءَ مَعِي مَكِدُونِيُّونَ وَوَجَدُوكُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لاَ نُخْجَلُ نَحْنُ حَتَّى لاَ أَقُولُ أَنْتُمْ فِي جَسَارَةِ الافْتِخَارِ هذِهِ.” (2 كو 9: 4)؛ “١٧ الَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ الرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ، فِي جَسَارَةِ الافْتِخَارِ هذِهِ.” (2 كو 11: 17). ولذلك يمكننا أن نقول مع رسالة العبرانيين أن الإيمان هو جوهر ما يُرجى أو الأساس إلى ما يٌرجى. وهي نفس كلمة “هيوستاسيس” التي تُرجِمَت إلى {ثقة}:” ١٤ لأَنَّنَا قَدْ صِرْنَا شُرَكَاءَ الْمَسِيحِ، إِنْ تَمَسَّكْنَا بِبَدَاءَةِ الثِّقَةِ ثَابِتَةً إِلَى النِّهَايَةِ،”(عب 3: 14)؛ “الإيمان هو الثقة بما يُرجى..” (عبرانيين 11 : 1).
والكلمة معروفة في الترجمة السبعينية للعهد القديم بمعنى “أساس”، أو “أساس الرجاء”. وفي الفلسفة اليونانية صار اصطلاح الـ”هيبوستاسيس” يتبادل مع اصطلاح “أوسيا” نفس المعنى، ويحل كل منهما محل الآخر..
تميز الأقانيم
أقانيم اللاهوت الثلاثة متحدون في الجوهر واللاهوت، ولكل أقنوم كامل صفات اللاهوت، أي أزلي وأبدي وغير محدود كلي القدرة والعلم والسلطان والقداسة. ولكن الأقانيم متميـزون، أي أن لكل أقنوم بعـض أعمال خاصة لا نستطيـع أن ننسبها إلى الأقنومين الآخرين. فهناك تميز واتحاد ولكن ليس هناك امتزاج أي لا نستطيع أن نقول أن الابن هو الآب ولا الآب هو الابن، مع أن الابن والآب واحد.
وواضح جداً من الكتاب أن أقنوم الابن هو الذي جاء إلى العالم متجسداً مرسلاً من الآب ليتم عمل الفداء بموته الكفاري على الصليب، فمكتوب فى (1يوحنا4: 10):
“فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا”.
وفى (يوحنا 3: 16):
“لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبديةُ”.
وفى (رسالة غلاطية 4: 4):
“وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ”.
والابن يقول فى (إنجيل يوحنا 16: 28):
“خَرَجْـتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ وَقَدْ أَتَيْتُ إلى الْعَالَمِ وَأيضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إلى الآبِ”.
فالآب هو الذي أرسل الابن، وهو الذي بذله لأجلنا وهو الذي قدمه كفارة عن خطايانا. والابن هو الذي خرج من عند الآب، وهـو الذي جاء إلى هذا العالـم مولودا من عذراء، وهو الذي مات على الصليب حاملا قصاص خطايانا. ولا نستطيع أن ننسب إلى الابن ما اختص به الآب. ولا ننسب إلى الآب ما اختص به الابن فنقول مثلاً أن الآب تجسد وأتى إلى العالم مولوداً ومات على الصليب. هذا خطأ محض لأن الذي تجسد هو أقنوم الابن فقط. ولا يجوز أن نقع في هذا الخلط في الكلام أو في الصلاة، ولو عن طريق السهو.
والروح القدس جاء إلى العالم في يوم الخمسين مرسلاً من الآب والابن، جاء بلاهوته غير متجسد ليشهد للابن وليسكن في جميع المؤمنين بعد أن ولدهم ولادة ثانية في كل الأجيال وفي كل مكان في العالم وهذا دليل على لاهوته غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان.
ومن اختصاص الابن أيضاً أن يدين الأشرار، الأحياء والأموات لأنه هو الذي أكمل الفداء على الصليب. ومما يبين هذا التميز بوضوح قول الوحي فى (إنجيل يوحنا 5: 22 – 23):
“ ٢٢ لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، ٢٣ لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. “.
ومن سخف القول أن هذا التميز يعني انقساماً أو تجزيئاً في اللاهوت لأن اللاهوت واحد غير محدود لا يدرك ولا ينقسم لأنه لا تركيب فيه. ولكن التميز هو في الأقانيم أو تعينات الله المتحدة في الجوهر بغير انقسام أو امتزاج.
ومن سخف القول أيضاً أنه إذا كان الله قد تجسد ونزل من السماء إلى هذا العالم فهل كانت السماء خالية في مدة التجسد؟
ومن الذي كان يدير الكون في تلك المدة؟
والخطأ كله يرجع إلى تطبيق ما للكائنات المحدودة التي تقع تحت حِسِّنا وبصرنا على الله غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان من الأزل وإلى الأبد، وبتطبيق أقيسة المحدود على الله غير المحدود.
الثالوث الأقدس
مما تقدم نرى أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، إلهاً واحداً لا نظير له ولا شريك في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس.
الآب هو الله،
والابن هو الله،
والروح القدس هو الله،
لا ثلاثة آلهة بل إله واحد، ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد. ولكن ثلاثة أقانيم متحدون بغير امتزاج ومتميزون بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي، أبدي، غير محـدود، لا يتحيز بمكان أو زمان، كلي العلم، كلي القدرة، كلي السلطان، لأن الأقانيم ذات واحدة.
هل هذا معقول؟
تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلاً وصعبة الاستيعاب، ولكن أليس هذا دليلاً واضحاً على صحتها وعلى أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها؟ لأن الإنسان إذا أراد أن يزيف إيماناً أو يصنعه فإنما يصنعه وفق الفطـرة البشرية وفي مستوى العقـل ليسهـل قبـوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصاً بحقيقة الله غير المحدود فلا بد أن يكون الإعلان كبيراً فوق الفهم الطبيعي، وأسمى من العقل ولكن لا يتعارض معه، ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي، للإيمان ولنور الله في القلب كما يقول الكتاب المقدس فى (1كورنثوس 2: 14):
“الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ (أي في ما لروح الله) رُوحِيّاً “,
فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثاً، وإن كان يبدو صعباً، ولكنه معقول، بل هو المعقول لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله لأنها تقتضي تنـزيهه عن الصفات والعلاقات. ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات، وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منـزه عن التغير، وهو مكتف بذاته، مستغن عن مخلوقاته. إذن لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأن لا شريك له تركيب فيه. ولا بد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة، أي جامعة لتعينات الذات الواحدة، لأن من لا تعين له لا وجود له.
ولا تناقص بين الوحدانية والتعينات لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته، لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل، مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان، وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلاً أن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها، أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب، والآب يحب الابن قبل إنشاء العالم، والروح القدس هو “روح المحبة”… وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.
ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهراً غامضاً لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع على أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته، حاشا. بل ذات واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد.
لاشك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشرى لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل بل هي معقولة. وقد شهد بمعقوليتها كثيرون من الفلاسفة الموحدين الذين تعمقوا في البحث.
أراء بعض الفلاسفة الموحدين في نوع وحدانية الله، وفي الأقانيم:
قال الإمام الغزالي في كتابه “الرد الجميل” المشار إليه في كتاب “تاريخ الفلسفة في الإسلام” صفحة 196 :
“يعتقد النصارى أن ذات الباري واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات. والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي أن الذات الإلهية عندهم واحدة في الجوهر وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم“ .
وقال الشيخ أبو الخير الطيب في كتابه “أصول الدين” صفحة 153:
“أقوال علماء النصارى تشهد بتوحيدهم، لأنهم يقولون أن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح النقاب عنها وهي: الآب والابن والروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنياً عن الظروف“ .
هاتان الشهادتان عن الإيمان المسيحي قريبتان من الصحة. غير أنهما قالا عن الأقانيم أنهم “اعتبارات” أو “صفات”وهذا نقلوه عن بعض فلاسفة المسيحيين دون الرجوع إلى الكتاب المقدس.
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه “الطمس في القواعد الخمس”:
“وإذا أمعنا النظر في قول النصارى أن الله جوهر واحد وثلاثة أقانيم لا نجد بينهم وبيننا اختلافاً إلا في اللفظ فقط. فهم يقولون أنه جوهر ولكن ليس كالجواهر المخلوقة ويريدون بذلك أنه قائم بذاته، والمعنى صحيح ولكن العبارة فاسدة“ .
ولكن الواقع أنه لا فساد في العبارة، فقد شهد كثيرون من العلماء والفلاسفة أنه يمكن إطلاق كلمة “جوهر” على الله. فقد قال مثلاً الإمام جعفر بن محمد الأشعبي: “يتعين أن يكون الله جوهراً، أو جوهراً مع سلامة المعنى”. وقد جاءت كلمة “جوهر” مرة واحدة في الكتاب المقدس عن المسيح “الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ” (رسالة العبرانيين 1: 3).
وجاء في كتاب العقائد النسفية صفحة 162 :
“لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية (أي الذين يعتقدون بإلهين: واحد للخير وآخر للشر) دون النصارى” أي أن النصارى موحِّدون.
وقال ابن سينا:
“الله علم وعالم ومعلوم،
وعقل وعاقل ومعقول،
ومحبة ومحب ومحبوب”.
وجاء في مجلة كلية الآداب الصادرة في مايو سنة 1934، وفي كتاب نصوص الحكم للفيلسوف محيي الدين العربي (صفحات 133، 134، 225، 226) ما يأتي :
“إن أول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية، وذلك لأن التعيين كان في صورة العلم حيث: العلم والعالم والمعلوم حقيقة واحدة. كما أن أول حضرة إلهية ظهر فيها الله كانت ثلاثية لأنها حضرة الذات الإلهية المتصفة بجميع الأسماء والصفات. فضلاً عن ذلك فإن عملية الخلق نفسها تقتضي وجود الذات الإلهية، والإرادة، والقول: “كن”. فالتثليث هو إذن المحور الذي تدور حوله رحى الوجود وهو الشرط الأساسي في تحقيق الإيجاد. والخلق“ .
وقد أنشد الفيلسوف محيي الدين العربي في حب الله قائلاً:
“تثليث محبوبي وقد كان واحداً
كما صير الأقنام بالذات أقنما“.
ولا يقصد هذا الفيلسوف بهذا الشعر وبأقواله السابقة أن يؤيد العقيدة المسيحية لأنه كان من المسلمين المتمسكيـن، ولكنه أراد أن يعلن أن الله كان يظـهر دائماً في ثالوث هـو “العلم والعالم والمعلوم “. أو “الذات والإرادة والكلمة”. ويقصد أن مجرد اتصاف الله بصفات وقيامه بأعمال دليل على أنه تعالى ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم.
وقال نفس هذا الفيلسوف “إن الله هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وعين ما ظهر وعين ما بطن فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة، وكثرة مردها إلى واحد “ .
وقال ابن الفارض:
“الحمد لله الذي تجلى بذاته، فأظهر حقائق أسمائه وصفاته، فجعلها أعيانا ثابتة وحقائق عينية“ .
وقال الشيخ البيجوري:
“الحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال“ .
وقال صاحب التحقيق:
“أرى الكثرة في الواحد. وإن اختلفت حقائقها وكثرت فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين“ .
وقال الإمام الغزالي:
“من ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه إنما خاف من لزوم الكثرة”.
ثم قال “إن كان عقل الله ذاته فيرجع الكل إلى ذاته فلا كثرة إذن. وإن كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول”(أي أنها أصلية في الله أزلاً).
وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في شرحه لاعتقاد المسيحييـن فـي ذات الله (كتاب الله صفحة 171):
“إن الأقانيم جوهر واحد. وإن “الكلمة ” و”الآب” وجود واحد، وإنك حين تقول “الآب” لا تدل عن ذات منفصلة عن “الابن” لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية“ .
عقيدة الثالوث ليست مقتبسة من الوثنية:
يقول البعض، إما عن عدم درس وفهم أو عن سوء نية بغرض التضليل، يقولون أن عقيدة الثالوث كانت موجودة عند الوثنيين في الهند، وكانوا يطلقون على إلههم المثلث: براهما، وفشنو، وسيفا ويقولون أن البوذيين كانوا يعتقدون أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم: الأول والوسط والآخر. وأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بآلهة ثلاثية: الأولى أمون، وكونس، وموت. والثانية: أوزيريس، وايزيس، وحورس. والثالثة: خنوم، وساتيت، وعنقت. وأن الأول من كل مجموعة هو الآب والثاني هو الابن والثالث هو الروح القدس كما هو الحال عند المسيحيين. ويقولون أن البابليين والفرس والصينيين كانوا يعتنقون مثل هذه العقيدة.
والواقع أن كل هذه الأقوال هراء في هراء وليس لها أي نصيب من الصحة. وهي تقال لتضليل غير الدارسين. ولكن بالدرس الدقيق لتلك الديانات يتضح أن براهما وفشنو وسيفا عند الهنود ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماماً.
أما بوذا فكان رجلاً عادياً عاش في الهند حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكانت له تعاليم معينة.
أما آلهة المصريين فهي لا تنص على أن كل مجموعة من آلهتهم إله واحد بل ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماماً فكانوا يمثلون أمون برجل وكونس (أوخنسو) بالقمر، وموت بأنثى النسر. وأوزيريس برجل، وايزيس بامرأة، وحورس بالصقر، وخنوم بالكبش، وساتيت بامرأة هي زوجته الأولى، وعنقت زوجته الثانية.
ولا مجال هنا للكلام عن الأوثان الأخرى عند البابليين والفرس وغيرهم.
فأي افتراء متعمد بجهل تتضمنه أقوال أولئك المعترضين!
ويكفى هنا أن نثبت بطلان هذه الأقوال من الوجهة التاريخية باقتباس أقوال الأستاذ عباس محمود العقـاد في كتـاب “الله” صفحات 149إلى 154 ونلخصها فيما يلي:
“فكرة الله في المسيحية لا تشبهها فكرة أخرى من ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية. وروح المسيحية في إدراك فكرة الله هي روح متناسقة تشف عن جوهر واحد، ولا يشبهه إدراك فكرة الله في عبادة من العبادات الوثنية. فالإيمان بالله على تلك الصفة فتح جديد لرسالة السيد المسيح لم يسبقه إليها في اجتماع مقوماتها برسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين. ولم تكن أجزاء مقتبسة من هنا أو هناك، بل كانت كلاماً متجانساً من وحي واحد وطبيعة واحدة“ .
كنيسة كلمة المصالحة