أربعة أنواع من البشر

فِي (مَتَّ13: 1- 9) «فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَالْجَمعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى الشَّاطِئ. فَكَلَّمَهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَالٍ قَائِلًا: «هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلَكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ.

وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمعِ، فَلْيَسمَعْ».
فِي (مَثَلِ الزَّارع) نَرَى أَنَّ الْبذُورَ هِيَ كَلِمَةُ اللهِ، وَهُنَاك أَرْبَعَةُ أَنْوَاع مِنَ الْبَشَرِ، مِنَ الَّذِين يَسْتَمِعُونَ لَهَا، وَالَّذِينَ يُشْبِهُونَ الطَّرِيق؛ وَالْأَرْض الْمُحْجِرَة؛ وَالْأَرْض الشَّائِكَة؛ وَالْأَرْض الْجَيِّدة.
وَالْبِذُورُ «كَلِمَة الله» إِنْ دَخَلَتْ الْقَلْبَ تَمْنَحهُ حَيَاةً رُوحِيَّةً جَدِيدَةً، وَتَجْعَلُ الْقَلْب يُعْطِي ثَمَرًا حُلْوًا وَفِيرًا. وَالْوَحْيُ الْمُقَدَّس يَأْمُرُنَا «فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.» (يَعْ1: 21). «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لَا مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لَا يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الْأَبَدِ.» (1بُط1: 23).
هَذَا الْمَثَلُ الْمَشْهُور يُقَدِّم لَنَا نَوعِيَّات الْبَشَرِ الَّذِين يَسْتَمِعُونَ لِكَلِمَةِ الله، وَكَيْفَ يَتَجَاوبُونَ مَعَهَا:
أَوَّلًا: الْإِنْسَانُ الْمُهْمِلُ الَّذِي لَا يُقَدِّرُ قِيمةَ نِعْمَةِ الله:
يَقُولُ الرَّبُّ يَسُوع عَنْ صَاحِبِ «الْأَرْض الطَّرِيق» [لَا يَفْهَمُ] قِيمَةَ الْكَلِمَة وَلَا مَعْنَاها (مَتَّ13: 19) «كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلَا يَفهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هَذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ». وَلَا يُقَدِّرُ قِيمَةَ الْبذُور.
إِنَّهُ الشَّخْصُ الَّذِي يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ لَا بِقَلْبِهِ فَلَا يَنْتَبِهُ لِمَا يَسْمَعهُ، وَلَا يُدْرِكُ مَعْنَاهُ الرُّوحِيّ، مِثْلَ الشَّخْصِ الْجَاهِلِ -الَّذِي بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ- الَّذِي يَسْمَع وَلَا يَعْمَلُ. (مَتَّ7).
إِنَّهُ الشَّخْصُ الَّذِي يُفَضِّلُ الْمُتْعَةَ الْوَقْتِيَّة عَنِ السَّعَادةِ الْأَبَدِيَّة، وَيُعْطِي الْأَولويَّةَ لِلْمَصْلَحَةِ الذَّاتِيَّة الْوَقْتِيَّة أَكْثَر مِنَ الْأَعْمَالِ الرُّوحِيَّة الْأَبَدِيَّة، مِثْل الْغَنِيِّ الْغَبِيِّ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي ذَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ. (لُو12).
إِنَّهُ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يَرَى وَلَا يُدْرِكُ قِيمَةَ نِعْمَةِ اللهِ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَليهِ مَا جَاءَ فِي (2كُو4: 4) «إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلَّا تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ».
إِنَّهُ الْإِنْسَانُ الْمُهْمِلُ الَّذِي أَعْطَى إِبْلِيسَ الْفُرْصَةَ لِيَسْرِقَ الْكَلِمَةَ فَلَا تَأْتِي بِثَمَرٍ فِي حَيَاتِهِ، إِذْ أَعْطَى إِبْلِيسَ الْفُرْصَةَ لِيَسْرِقَ أَحْلَامَهُ وَقُوَّتَهُ وَنَجَاحَهُ، فَإِبْلِيس سَارِقٌ وَلِصٌّ، «وَيَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ.» (1بُطْ5: 8).
هُنَاك مَقُولَةٌ مَشْهُورةٌ تَقُولُ: يُوجَدُ أَعْظَمُ رَجَاء لِأَعْظَمِ خَاطِئ يَقْرَأُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّس، وَيُوجَدُ أَعْظَمُ خَطَرٍ عَلَى أَعْظَمِ مُؤْمِنٍ لَا يَعْبَأُ بِقِرَاءةِ الْكِتَاب الْمُقَدَّس.
لِهَذَا يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُس لِتِلْمِيذِهِ تِيمُوثَاوُس «لَاحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هَذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا.» (1تِي4: 16).
ثَانِيًا: الْإِنْسَانُ السَّطْحِيّ:
الْأَرْضُ الْحَجَرِيَّة لَيْسَ لَهَا عُمْقُ أَرْض، عِنْدَمَا تَسْقُطُ عَلَيهَا الْبِذَارُ وَتَبْدَأُ فِي النُّمُوِّ سُرْعَان مَا تَجِفُّ وَتَنْتَهِي مِثْلَ يَقْطِينَةِ يُونَان بِنْت لَيْلَةٍ كَانَت وَبِنْت لَيْلَةٍ هَلَكَتْ.
الْإِنْسَانُ السَّطْحِيّ صَاحِب الْأَرْضِ الْحَجَرِيَّة غَيْرُ مُسْتَعِدٍ لِأَنْ يَدْفَع حِسَابَ تَكْلُفَةِ إِتِّبَاعِ الْمَسِيح. إِنَّهُ مِثْلُ يِهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيّ، الَّذِي تَخَيَّلَ أَنَّهُ سَيَصِلُ إِلَى مَكَانَةٍ أَرْضِيَّةٍ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيح، وَعِنْدَمَا اكْتَشَفَ أَنَّ الْمَسِيحَ يُقِيمُ مَلَكُوتًا رُوحِيًّا، وَأَنَّ إِتِّبَاعَهُ يَعْنِي التَّضْحِية بَاعَ السَّيِّدَ بِثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. (مَتَّ26: 15).
وَلَقَدْ قَالَ الرَّبُّ لِلنَّبِيِّ حِزْقِيَال إِنَّ رِسَالتَهُ سَتَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ «كَشِعْرِ أَشْوَاقٍ لِجَمِيلِ الصَّوْتِ يُحْسِنُ الْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلَامَكَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ.» (حِزْ33: 32). (حِزْ11: 19؛ 36: 26) «وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا، وَأَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ».
كَمْ مِنْ أُنَاسٍ قُلُوبهمْ حَجَرِيَّة، لَكِنْ نِعْمَة الله قَادِرَةٌ أَنْ تُحَوَّلَ الْقُلُوب الْحَجَرِيَّة إِلَى قُلُوبٍ لَحْمِيَّةٍ، فَمَكْتُوبٌ فِي (حِزْ11: 19) «وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا، وَأَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ». مَعَ (حِزْ36: 26، 27). فَكَمَا أَنَّ الْحَجَرَ لَا يَسْمَحُ لِلْجُذُورِ أَنْ تَمْتَدَّ لِتَحْصُل عَلَى الْغِذَاءِ وَالْمَاءِ؛ فَتَمُوتُ النَّبْتَةُ الْمُبْتَدِئَةُ هَكَذَا الْقُلُوب الْحَجَرِيَّة لَا تَنْمُو فِيهَا كَلِمَةُ اللهِ إِذْا لَا تَحْصُلُ عَلَى الْغِذَاءِ الرُّوحِيّ.
إِنَّهُ الْإِنْسَانُ الْقَاسِي الْقَلْب، الَّذِي يَحْمِلُ قَلْبًا حَجَرِيًّا، بِسَبَبِ التَّعَوّد عَلَى الْخَطِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْطَبِقُ عَليهِ مَا قَالهُ الرَّسُولُ بُولُس «مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلَانِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ.» (رُو2: 5).
ثَالِثًا: الْإِنْسَانُ الْمَهْمُوم وَالْمُتَردّد أَوْ الْمُتَذَبْذِب:
سَقَطَتْ الْبذُورُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَوْك، فَنَمَتْ لِأَنَّهَا أَرْضٌ صَالِحَةٌ بِدَلِيلِ نُمُوِّ الشَّوْكِ فِيهَا، إِلَّا أَنَّ الشَّوْكَ خَنَقَ النَّبَاتَ الْجَيِّد، فَالشَّوْكُ مَوجُودٌ بِالتُّرْبَةِ وَيَسْتَمِدُّ غِذَاءهُ مِنْهَا، فَيَلْتَهِمُ غِذَاءَ الْبذُورِ.
يَرْمُزُ الشَّوْكُ إِلَى الطَّبِيعَةِ القديمةِ فِينَا، وَالَّتِي تُهَدِّدُ الطَّبِيعَةَ الْجَدِيدةَ «لِأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لَا تُرِيدُونَ.» (غَلَا5: 17). وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّبُّ يَسُوع: «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ.» (مَتَّ26: 41).
وَهُوَ مِثْلُ الشَّابِّ الْغَنِيِّ الَّذِي رَفَضَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَسِيحَ «وَمَضَى حَزِينًا، لِأنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ.» (مَرْ10: 22).
وَهُوَ مِثْلُ دِيمَاس الَّذِي قَالَ الرَّسُولُ بُولُس عَنْهُ «تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ.» (2تِي4: 10).
إِنَّ التُّرْبَةَ الَّتِي بِهَا شَوْكٌ تُشْبِهُ الْإِنْسَان الْمُتَردّد، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ السَّمَواتِ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ يَسُوع: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ.» (لُو9: 61، 62). وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ يَعْقُوب: « رَجُلٌ ذُو رَأْيَينِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.» (يَعْ1: 8).
مَا أَكْثَرَ الْأَشْوَاك الَّتي تُنَافِسُ الْبذُورَ الْجَيِّدَةَ: هُنَاك أَشْوَاك هُمُومِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَتَاعبهُ، مَعَ أَنَّ الرَّبَّ يَسُوع كَثِيرًا مَا يُطْمئِنَا أَمَام ضَغْطِ الاحْتِيَاجَاتِ الْمَادِيَّة قَائِلًا: «فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِليَنَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الْأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا.» (مَتَّ6: 31، 32).
وَهُنَاك أَشْوَاكُ غُرُورِ الْغِنَى الَّذِي يَجْتَذِبُ عيُونَ الأَغْنِيَاءِ، وَهُنَا نَجِدُ الرَّسُول بُولُس يَقُولُ: «لِأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ، فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا.» (1تِي6: 7). فَإِنَّهُ «مَتَى كَانَ لِأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ.» (لُو12: 15).
هُنَاك أَشْوَاكُ غُرُورِ الْمَرْكَزِ وَالسُّلْطَةِ، فَالنَّاسُ تَتَصَارعُ وَتَتَقَاتلُ مِنْ أَجْلِ الوصُولِ إِلَى السُّلطَةِ وَالأَضْوَاءِ.  وَهُنَاك أَشْوَاكُ الشَّهَواتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْوَحْيُ يَقُولُ: «الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ.» (1يُو2: 17).
رَابِعًا: الشَّخْصِيَّةُ السَّوِيَّة الْمُتَّزِنَة:
أَصْحَابُ الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ «هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ.» (لُو8: 15). وَالْقَلْبُ الصَّالِحُ يَسْمَعُ وَيَقْبَلُ وَيَلْهَجُ بِهَا؛ فَتَنْمُو وَتُثْمِرُ بِالصَّبْرِ سُلُوكًا صَالِحًا. وَيُصْبِحُ الْمُؤْمِنُ «كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لَا يَذْبُلُ.» (مَزْ1: 3).
صَاحِبُ الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ مِثْل تِيمُوثَاوُس الَّذِي قَالَ لَهُ الرَّسُولُ بُولُس: «إِنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلَاصِ، بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.» (2تِي3: 15).
الْأَرْضُ الْجَيِّدَةُ تَتَجَاوبُ مَعَ الْمَطَرِ فَتَأْتِي بِثَمَرٍ، إِذْ تَنْمُو الْبِذَارُ  وَتُثْمِرُ كَمَا قَال (إِشَعْيَاءُ55: 10، 11): «لِأنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الْأَرْضَ وَيَجْعَلَانِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلْآكِلِ، هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لَا تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ».
وَالْأَراضِي الْجَيِّدة أَنْواعٌ مُتَعَدَّدةٌ: فَبَعْضُهَا يُثْمِرُ ثَلَاثِينَ ضِعْفًا؛ وَبَعْضُهَا سِتِّينَ؛ وَبَعْضُهَا مِئَةَ ضِعْفٍ.
عِنْدَمَا أَلْقَى الْمَسِيحُ هَذَا الْمَثَلَ كَانَت الْأَرْضُ تُعْطِي عَادَةً مَا بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَضْعَاف إِلَى خَمْسَةِ عَشر ضِعْفًا، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الرَّبَّ يَنْتَظِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثَمَرًا أَكثر، عَمَلًا بِالْوَصِيَّةِ: «إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.» (مَتَّ5: 20).
وَيَبْقَى السُّؤالُ: لِمَاذَا يُعْطِي مُؤْمِنٌ ثَلَاثِينَ ضِعْفًا، بَيْنَما يُعْطِي غَيْرُهُ سِتِّينَ أَوْ مِئَةَ ضِعْف؟ الْفَرْقُ بَيْنهمْ هُوَ مَدَى اسْتِعْدَادِ كُلٍّ مِنهمْ لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَامْتِدَادِ تَكْرِيس الْحَيَاةِ لَهُ.
خَامِسًا: اللهُ يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ:
إِنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ الْجَمِيع، وَيُحِبُّ الْجَمِيعَ، وَيَتُوقُ إِلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يَخْلُصُونَ فَمَكْتُوبٌ: «هَكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ؛ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ.» (يُو3: 16).
فِي هَذَا الْمَثَلِ نَرَى أَنَّه بِالرَّغم مِنْ أَنَّ الزَّارِعَ يَعْلَمُ أَنَّ التُّرْبَةَ أَنْوَاعٌ، وَأَنَّ جُزْءًا مِنْ بذُورِهِ سَيَضِيعُ بِدُونِ فَائِدَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ فِي بَذرِهَا. إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَارِكَ الْأَرْضَ وَيَجْعلَهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ، وَالزَّارِعُ يَرْجُو أَنْ تَتَغَيَّرَ بَعْض أَنْوَاعِ التُّرْبَةِ نَتِيجَة الْعِنَايَةِ وَالرِّعَايةِ، فَعِنْدَمَا تُزَال الْأَحْجَار تَجِدُ البذُورُ عُمْقَ أَرْضِ، وَعِنْدَمَا تُقْلَعُ الْأَشْوَاك لَا تَعُود فَتَخْنقُ النَّباتَ الْجَيِّدَ.
لَعَلَّنَا نُلَاحِظُ أَنَّ الزَّارِعَ هُوَ نَفْسهُ لَمْ يَتَغَيَّر، وَالبذُور هِيَ نَفْس البذُورِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَلَكِنَّ الْعَيْب يَرْجِعُ إِلَى إِبلِيس، الَّذِي نُعْطِيه الْفُرْصَةَ لِكَي يَخْطِفَهَا، وَإِلَى الْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي يَرْفضهَا.
سَادِسًا: الْإِنْسَانُ بِكَامِلِ حُرِّيَّتِهِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرْفُضَ عَمَلَ اللهِ:
خَتَمَ الْمَسِيحُ هَذَا الْمَثَل بِالْقَولِ: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ.» (مَتَّ13: 9). وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْحَقَّ مُعْلَنٌ لِلْجَمِيعِ، وَلِكُلِّ مُسْتَمِعٍ الْحُرِّيَّة فِي أَنْ يَقْبَلَ الْحَقَّ إِنْ هُوَ أَرَادَ، كَمَا أَنَّ لَهُ مُطْلَقُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَنْ يَرْفُضَهُ. قَالَ الرَّبُّ يَسُوع: «هَأَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.» (رُؤْ3: 20).
اللهُ لَا يُجْبِرُ أَحَدًا لِكِنَّهُ أَعْطَى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أُذُنَيْن، ثُمَّ وَجَّهَ لَهُ الدَّعوةَ، فَأَيُّ نُوعٍ مِنَ التُّرْبَةِ قَلْبكَ.
إِنْ كَانَ كَالطَّرِيقِ فَإِنَّ اللهَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْرُثَهُ بِمِحْرَاثِ نِعْمَتِهِ بِصَوْتٍ لَطِيفٍ أَوْ بِتَهْدِيدٍ مُخِيفٍ، كَمَا قَالَ: «أُضَيِّقُ عَلَيهِمْ لِكَيْ يَشْعُرُوا.» (إِرْ10: 18). قَدْ يَنْفَتِحُ قَلْبُكَ بَعْدَ نُورٍ مُبْهِرٍ يُعْمِي الْعيُون، كَمَا حَدَثَ مَعَ شَاوُل الطَّرْسُوسِيّ (أَعْ9: 3، 4). وَقَدْ يَنْفَتِح بِسُرْعَةٍ وَهُدوءٍ كَمَا حَدَثَ مَعَ لِيدِيَّة (أَعْ16: 14). وَقَدْ يَنْفَتِح بَعْدَ زِلْزَالٍ كَمَا حَدَثَ مَعَ سَجَّانِ فِيلِبِّي (أَعْ16: 26- 34).
وَإِنْ كَانَ قَلْبُكَ حَجَرِيًّا فَالرَّبُّ قَادِرٌ أَنْ يَنْزِعَ مِنْكَ قَلْبَ الْحَجَرِ وَيُعْطِيكَ قَلْبَ لَحْمٍ (حِزْ11: 19). إِنْ كَانَ يَحْتَوِي عَلَى شَوْكٍ يَخْنِقُ البذُورَ فَهُوَ قَادِرُ أَنْ يَقْتَلِعَ الشَّوْكَ. وَإِنْ كُنْتَ تَأْتِي بِثَلَاثِينَ ضِعْفًا يُعْطِيكَ مِئَةَ ضِعْفٍ.

 

الحياة المنتصرة